عن كتاب: كيف سحر القرآن العالم

بما أنها أيام سعادة وفرح، فلماذا لا أتحدث شيئا عن الكتب؟
من فترة _قبل النصر إذ دماغي كأدمغة بقية السوريين ما زال منتشيا بلحظة ارفع راسك فوق أنت سوري حر_ أقول من فترة أنهيت كتاب (كيف سحر القرآن العالم) لمؤلفته الألمانية: أنجيليكا نويفيرت، وهي من أشهر باحثي الدراسات القرآنية الغربيين في الوقت الحاضر. وكتبت بعض الملاحظات لبعض الأصدقاء.
الكتاب غريب الحقيقة، غرابة ملهمة! وهو جميل ولكن علي توضيح ما أعني بجماله، حتى لا يفهم منه ما فهمته العزيزة سوسن Sawsan Alotaibi حين انتقدت _محقة_ الاحتفاء المبالغ بوائل حلاق من منطلق التمسح بكل غير مؤمن يمدح القرآن والاسلام. وأيضا حتى لا يفهم من كلامي ما قرأته عن أحدهم تعليقا على الكتاب بكونه مؤلفة غير مسلمة تمدح القرآن، فليس هو التوصيف الأدق للكتاب.
نويفيرت تحاول في الكتاب أن تضع القرآن بسياق كتابي (النسبة من الكتاب المقدس) كان في زمانه بالإضافة إلى سياق عربي، فهي تحاول أن تبرز اشتراك القرآن بالنقاش الذي كان سائدا حينها في الدوائر الكتابية اليهودية والنصرانية وأيضا الوثنية العربية والقبلية، وتحويله لمجرى هذه النقاشات وأخذها لبعد آخر أكثر عمقا وتجريدا. يبرز عمق القرآن في مفهوم الشعائر وتحويلها من طقوس أسطورية إلى ممارسات تعبدية تنصب على تهذيب النفس وإبراز التقوى الذاتية، وتحويل قصص الكتاب المقدس بشكلها الأسطوري والذي له علاقة بالنسب والذي يستعاد تذكرها كنوع من الطقوسية إلى قصص ملهمة لها علاقة بالتقوى والإيمان وتنصب في الممارسات الحياتية اليومية، بحيث لم يعد التركيز على أشخاص الأنبياء كهم وإنما ما فعلوه… وهذا ما عنته بمضمون العنوان كاملا، وهو (كيف سحر القرآن العالم، ثم كيف نزع هذا السحر)، فهي ترى أن القرآن انقسم لفترتين في نزوله، الفترة الأولى ساهم القرآن في إضفاء أبعاد سحرية على ما يخبر به “والمقصود بالسحر هنا هو نقله للمرء لوقائع خارج الزمان والمكان وربطه بعوالم روحانية لا يطالها الخيال” من خلال السور المكية الأولى التي تتحدث عن انهدام السماوات والأرض وعلامات الساعة، وأيضا توجه القبلة نحو بيت المقدس الغريب عن المحيط العربي آنذاك. ثم بعد ذلك في الفترة المدنية فك هذا السحر بأن جعل كل ما أتى به مرتبطا بالحياة اليومية التي تنعكس على حياة الفرد لتهذيبه الذاتي وتقواه. وبعد أن تشكل مفهوم المجتمع الجديد المرتبط ببعضه بالإيمان بعيدا عن مفهوم القبيلة والنسب، وبعد أن واجه اليهود في المدينة ليتمايز عنهم، حتى قصص الأنبياء كما يقدمها القرآن قد شملها هذا التدريج التعليمي بنظرها، بما فيها توجه القبلة لمكة.
الكتاب مختلف الحقيقة عن الدراسات الغربية للقرآن المعتادة، إذ فيه عمق من نوع معين، عمق يرى اختلافا جذريا فيما يخبر به القرآن فيما يتعلق بقصص الكتاب المقدس أو بمحيطه الوثني ويرى فرادته وعمقه فيما يخبر به، لكن هذا العمق ليس هو العمق الذي يراه المؤمن به، وإنما هو عمق ينطلق من خلفية علمانية ذات أصول مسيحية. بمعنى أنه يقرأه بعيون علمانية بمناهج قراءة الكتاب المقدس ورمزيتها.
الكتاب أعجبني الحقيقة، أعجبني رغم ما سأقوله بأن فيه حذلقة على درجة كبيرة في محاوله ربط القرآن بسياقات لاهوتية يهودية ومسيحية متشعبة والتي لست متأكدة حقيقة إن كانت سائدة حقيقة حينها بهذا الظهور والتطور في تلك الفترة أو أن المؤلفة لحيرتها أمام عمق القرآن وسعة إطلاعه قد حاولت بكل تفنن أن تفترض أنها كذلك، أي أن كثيرا من عمق هذه الأفكار للسياقات افترضتها بأثر رجعي بعد الاطلاع على القرآن، بمعنى أن القرآن هو من ألهمها بإضفاء عمق على السياق التاريخي، وليس أنه انبثق من سياق عميق فعلا…
وحق لها أن تؤخذ بالقرآن، كما أخذ الوليد بن المغيرة، لكن ذاك أخذه البيان، وهذه أخذها الأفكار والمادة، إذ أنها تحلل وتكتب وكأن رسول الله كان دائرة معارف كتابية وفلسفية وعلى امتدادات زمانية متباعدة وجغرافية ممتدة وطائفية متباينة متشاكلة حتى استطاع أن يأتي بمثل هذا الكتاب، متغافلة عن الجانب الإعجازي في كل هذا أنه ما كان إلا رجلا أميا في بيئة أمية بعيدة عن كل هذه الأجواء.
وسبحان الله مما زاد استمتاعي بالكتاب أنه تزامن مع قراءتي لتفسير ابن عاشور لقول الله تعالى:

“﴿قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكم ولا أدْراكم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكم عُمُرًا مِن قَبْلِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ :(أفَلا تَعْقِلُونَ أنَّ مِثْلَ هَذا الحالِ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ الأُمِّيَّةِ والإتْيانِ بِهَذا الكِتابِ البَدِيعِ في بَلاغَتِهِ ومَعانِيهِ لا يَكُونُ إلّا حالَ مَن أفاضَ اللَّهُ عَلَيْهِ رِسالَتَهُ إذْ لا يَتَأتّى مِثْلُهُ في العادَةِ لِأحَدٍ ولا يَتَأتّى ما يُقارِبُهُ إلّا بَعْدَ مُدارَسَةِ العُلَماءِ ومُطالَعَةِ الكُتُبِ السّالِفَةِ ومُناظَرَةِ العُلَماءِ ومُحاوَرَةِ أهْلِ البَلاغَةِ مِنَ الخُطَباءِ والشُّعَراءِ زَمَنًا طَوِيلًا وعُمْرًا مَدِيدًا، فَكَيْفَ تَأتّى ما هو أعْظَمُ مِن ذَلِكَ المُعْتادِ دَفْعَةً لِمَن قَضى عُمْرَهُ بَيْنَهم في بِلادِهِ يَرْقُبُونَ أحْوالَهُ صَباحَ مَساءَ، وما عُرِفَ بَلَدُهم بِمُزاوَلَةِ العُلُومِ ولا كانَ فِيهِمْ مِن أهْلِ الكِتابِ إلّا مَن عَكَفَ عَلى العِبادَةِ وانْقَطَعَ عَنْ مُعاشَرَةِ النّاسِ.)

الكتاب أعجبني حقيقة واستمتعت به كثيرا، وإن كنت لا أتفق مع منهجه جملة وتفصيلا ولا مع منطلقاته ولا مع نتائجه، ولكن أعجبتني الحيرة التي تقفز من بين السطور في محاولة إيجاد سياق أرضي لهذا الكتاب السماوي بطريقة لا تخلو من عمق _وإن كان عمقا علمانيا_، وتلفت نظري لأبعاد لم أنتبه لها، وليست هي المرة الأولى التي أقرأ للمؤلفة، وفي كل مرة يعجبني ما أقرأ لها، يعجبني انتباهها للتطور في قصص القرآن الكريم في كيفيتها وما تريد إيصاله من أفكار عن تلك التي في الكتاب المقدس ولا تكتفي بمقارنات سطحية، وكتاباتها فيها عمق أكثر بكثير ممن يكتب في مثل ما تكتب من خارج دائرة الإسلام بل وربما دائرة الإيمان بإله عموما. وإن كنت كما قلت قبلا هو عمق ينطلق من قراءة علمانية بأصول مسيحية.
سبحان الله أفكر لو أنها فقط تحاول أن تنصت للقرآن لما يقوله، لاختفى كل هذا التحذلق، ولفتح لها باب أصدق في عمقه مما تكتب، أسأل الله أن يهديها للحق، تخيفني فكرة أنه كلما زاد علم المرء، زادت الحجة عليه.
وصدق الله: (أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ)
الكتاب ليس سهلا عموما، يناسب المتخصصين لكن ترجمة صبحي شعيب له ممتازة، استطاعت أن تنقل بوضوح الكثير من الأفكار غير المألوفة، أما تعليقات واستدراكات طارق حجي فهي حكاية أخرى، إذ كفيلة لوحدها أن تكون سببا لإعجابي واستمتاعي بأي كتاب.
ومن سلسلة الاستشراق الألماني للبحر الأحمر للنشر، وهي دار مصرية جديدة… ولديهم عناوين جميلة الحقيقة… وإن كانوا لم يشاركوا بمعرض الكتاب هذا العام للأسف… لكن من يدري ربما سألتقي بهم هذه المرة في معرض كتاب دمشق الحرة هنأها الله وردني إليها… (تسميعة لدار مدارات المسؤولة عن توزيع كتبهم علهم يعجلوا بهذا فيأتوا، بس استنوني لارجع)
بقي أن أذكر أن سوسن نصحتني في هذا السياق بقراءة كتاب عبد المجيد الصغير (القيم الإبراهيمية ونهاية التاريخ؛ الأبعاد الفلسفية والأخلاقية لإشكالية الاعتراف بالآخر، مقاربة دينية ومقاربات سياسية) ومن يعرف سوسن لن يفوت نصيحة علمية تقدمها له… إن شاء الله أفعل…
وهذا رابط لمقال يعرض الكتاب بشكل أفضل من موقع تفسير
https://tafsir.net/paper/67/ktab-kyf-shr-al-qr-aan-al-alm-l-anjylyka-nwyfrt-ard-wtqwym

سلمى الهلالي
أواخر 2024