|
الرئيسية >> كتب بنكهات متنوعة... >> تبرير خامل آخر... |
|||||
تبرير خامل آخر...
و لا أخفيكم أني لم أفكر بالأفلام و المسرحيات قبلا بهذه الطريقة، إذ لطالما كنت أرى الرواية هي الفيصل في الحكم على الفيلم في مدى اقترابه أو ابتعاده عنها، و لكنها تبدو لي فكرة تستحق أن أعمل عليها في ذهني أكثر، و خصوصا أن المؤلف حين صار مخرجا فإنه قد قام بالتعديلات تماشيا مع متطلبات هذا النوع الفني المختلف عن الكتابي...
استمتعت بالفيلم كاستمتاعي بالرواية...
و سيجي بارع مؤلفا و مخرحا...
كنت قرأت الرواية قبل فترة، و لكن ما جعلها تخطر على بالي لأحدثكم عنها هو تساؤل بعضهم _و ربما للمرة المليون_ عن فائدة قراءة نص مكتوب بلغة عربية معتقة أو شعر ما؟ فهم لا يقرأون إلا ليتحصلوا على معلومة ما... هذا النوع من الفكر البليد مسيطر على واقعنا كثيرا، حيث كل شيء ينبغي أن يقاس بمقياس محسوس... و الفن و لكونه تجريدا يحتاج لتبرير دائما. فهو إن لم يكن مقترنا بشيء ملموس فلا معنى له، إن لم يقدم عوضا ماديا أو معلومة طبية أو تاريخية أو تكنلوجية أو واقعية الخ فما الفائدة منه؟ و كأنه أمر غير أصيل، ترف زائد، غير مقنع، لا معنى له، فائض عن الحاجة... و لذلك يحتاج دائما إلى تبرير...
في رواية سيجي يجد رئيس القرية كمانا مع أحد الشابين فيريد رميه في النار ليحرقه إذ بدا له بلا فائدة، و لكن الشاب الآخر أنقذ الموقف بقوله أن صديقه عازف ماهر، و سيعزف له مقطوعة جميلة لموزارت... رئيس القرية تشكك حين سماع الاسم، و لم تشرق أساريره حتى ادعى الشاب أن عنوان الأغنية: موزار يفكر في ماو... و هنا في هذه اللحظة، بدا الفن مقنعا، فقد قدم التعليل له... لأنه ارتبط بشيء ملموس للمتلقي... ماو... و بذلك صار أمرا يعتد به و يـُستمع له بل و يـُتلذذ به... الرواية برمتها تدور حول هذه الفكرة، حول الفن... الفن غير المرتبط بعائد مادي، أو بالواقع... كيف أن له من السلطان بحيث يحول كل شيء حولك، لأنه يحولك من الداخل...
فهل من شيء أقوى و أكثر منطقية في الحياة من الشيء الذي يغيرك؟ الفن هو ما يغير... للأسوأ أو للأحسن ذاك يعود لنوعية الفن... و لكنه هو الذي يلعب على وتر الروح... على وتر الداخل... إما أن يأد روحك، يثقلها، يفرغها، يلعنها، يخرج أسوأ ما في طبيعتك البشرية و أكثره شرا و قبحا... أو يملأ روحك، يشدك للأعلى، يغذيك بالكمال، يخرج منك أجمل ما أودع في داخلك... هذا هو الفن... هو الذي يعميك أو يبصرّك... هو الذي يقتلك أو يحيك... الفن هو اللذة... اللذة التي تحطك أو ترفعك... اللذة التي تفسد الحياة أو تصلحها... تجعلها عجفاء خاوية أو مفعمة نابضة... اللذة التي مدار حياة البشر حولها بين فقد و بحث و إيجاد... و كل يختار لذته من أخسها لأرقاها، من أعجلها لأدومها، من أتفهها لأنفسها... حتى الإيمان بالله بحد ذاته قائم على اللذة... فأي لذة تعدل عبادة الكامل و تسبيح مطلق الجمال... الفن هو الشعور و الفكر... الفن هو أنت... ثم يأتي من يقول و ما الفائدة؟ ماذا ستجني؟ هل هناك عائد من وراء ذلك؟ هل من ربح مادي؟ هذه الأسئلة الباردة التي لا تنتهي، مطالبة بمبرر كلما نظمت شعرا أو خططت مقالا أو أفنيت نقودك و سني عمرك على ما هو فكر و فن...
في فيلم إصلاحية شوشانك The Shawshank Redemption
يختلس أحد السجناء لدقائق فرصة و يضع في إذاعة السجن مقطوعة أوبرالية آسرة لموزارت، و إذ تجمد في مكانها كل الأنفس التعسة و الملعونة هناك في ذاك العذاب المسمى جورا بإصلاحية و تحلق مع الصوت و كأنه انتشلها من الجحيم إلى الجنة بلحظة، نزعها من كل الشر و القبح الذي يغلفها إلى جمالها و خيرها المدفون فيها... بتلك اللحظات لم يطالب أحد بمبرر، لم يسأل أحد عن المعنى، لم يخطر على بال أحد أن لماذا... كل ما حصل لحظتها أن شعورهم بالجمال قد شل كل شيء و أوقف مشهدهم الوجودي لفترة...
الفن هو ما يملك القدرة على تحويل قطرة مطر أو يوم عادي أو حدث تافه من الحياة إلى لقطة من الفردوس... و هو نفسه الذي قد يشوه الكون بكل ما فيه من حكمة و عمق إلى لعبة عبثية خاوية من المعنى... و هو نفسه الذي قد يغير كل جمال سماوي بثه الله إلى مجرد شيء نفعي و مادي...
فمحادثة
مملة بين سيدتين عن إرسال رسالة لأحدهم
علـّه يحس،
تصير و كأنها ترنيمات من عالم أثيري لم يعهده
إنسي...
Mozart Marriage Of Figaro Sul Aria By Karl Boehm
و هو من يجعل
كارهة و مناهضة للقهوة
مثلي تود من كل
قلبها لو كانت حول
النار في الصحراء مع هذا البدوي الذي يصف
تحميصه حبات البن،
لتتذوق قهوته و
تستمع لأنشودته من
فمه مباشرة
أم ما العوض الذي تريده
لتتماهى مع أغنية عن الربيع... حتى
أنا التي لا تستسيغ
مواضيع أساطير الآلهات، و لا أحب الربيع لأني
صديقة الخريف غريم الربيع كما أخبرتكم قبلا،
قد سحرتني أغنية
فنلندية
فلكلورية عن إلهة
الربيع و لخبطت أفكاري
و إن كنت
أعترف أني لم أتمالك نفسي و رقصت معها
قليلا
Suveta (Goddess of Spring) by Gjallarhorn
أو أن أبيات رقيقة كأبيات البهاء زهير هذه تحتاج لتبرير:
كيف خلاصي من
هوى مازج روحي
و اختلط
تلك التساؤلات المتبلدة تفسد اللحظة و تشعر بفجاجتها كالصفعة ترديك من الحالة التي كنت فيها على الواقع المثقل المحدود الضيق: ما الفائدة من الكلمات؟ ما الفائدة من الشعر؟ ما الفائدة من الفن؟ ما الفائدة من التفكر؟ ما الفائدة من الألحان؟ ما الفائدة من الألوان؟ ما الفائدة من التنفس؟ ما الفائدة من الروح؟
ثم تدفعك لتمارس
مكرها فعل
التبرير السطحي... هذا التبرير الخامل الذي
يجعلك تشمئز من نفسك و أنت تبهت المعنى و
تحاول إيجاد ما تعلل به... و تكتب موضوعا
كهذا...
بالله عليكم و قبل أن أبرر
للمرة المليار هلا
أخبرتموني و لو لمرة واحدة ما الفائدة
من الفائدة أصلا؟
بالزاك و الخياطة الصينية الصغيرة Balzac and the Little Chinese Seamstress لمؤلفها الصيني: داي سيجي Dai Sijie ترجمة: محمد علي اليوسفي
المركز الثقافي العربي
سلمى الهلالي 20/11/2010
تعقيب:
أسوأ ما في
موقعي _أو ربما فيّ
أتاني تعليق على موضوعي هذا، و كأنه فـُهم منه أني أومن بمقولة: الفن للفن و لكن ليس هذا ما عنيته من موضوعي...
ما عنيته أن
الفن يملك قوة و سلطانا... هذا السلطان يستطيع
على إثره أن يرفع المرء أو يحطه... أن يغير
نظرته للوجود برمتها إن خيرا أو شرا... أن
يجعله مجدفا أو مسبحا... الفن يملك القدرة على
التزيين... الغواية...
|
|
||||
|
|