إنما خدش الخدوش أنوش

منذ سنوات بعيدة مر معي هذا المثل الفريد في كتاب الأمثال للميداني: (“إنَّمَا خَدَشَ الْخُدُوشَ أَنُوشُ” .الخدش: الأثر، وأنوش: هو ابن شيث ابن آدم صلى الله عليهما وسلم، أي أنه أول من كَتَبَ وأثر بالخط في المكتوب. يضرب فيما قَدُمَ عهدُه.) ومن يومها علق في داخلي، وهو يطرق ذهني بين كل حين وحين، وأنا أتخيله وقد أمسك قلمه وبدأ يكتب… هل أتاه إلهام إلهي بأن يمسك بيده أداة ويخط بها خطوطا لأصوات ما يتحدث به، أو رأى رؤيا فانتبه من نومه يحاكي ما رأى، أو جاءه ملك علمه الأحرف والرموز وترك له أن يستمتع بتركيبها وفق ما يشتهي، أو أنها ألواح نزلت من الله وقد كتب فيها وصاياه كألواح موسى أو أسمائه الحسنى ليدعوه الناس بها، فأخذ ينسخ نسخا منها؟ ما كان أول ما كتب وشكله وكيفيته؟
ومع لطافة ما يحاوله المؤرخون في مبتدأ الكتابة بسبب بعض الرقم والحجارة، إلا أنه لا يكفي لرسم صورة عما حدث حقيقة إلا بسد الفراغات بالخيال، ولا أرى فعلهم يخرج عن قولهم عن اللغة بما هو ظنون وأحلام بجملة بقية الأحلام اللغوية، فالكتابة واللغة وثالثهما الفكر البشري صحبة لا تفترق، وأنى يمكن اليقين بشيء كهذا؟ ما زلت أرى منشأ اللغة وتبعاتها من كتابة وغيرها قد عُلّمها الإنسي ابتداء، والله أعلم بماهية ما عُلمه ضرورة ثم ما تُرك له ليبنيه ويشذبه… فإن كان الإنسان خاضع للغة ومضطر إليها ومبناه الداخلي قائم بها، فكيف يتجاوز وعيه ويبني من اللاشيء نظاما صوتيا ويربطه بما هو بصري ثم ينخضع له وفكره… تبقى اللغة أعقد من الفكر البشري، فهو يحتاجها ليبني نفسه ومن ثم يعيد تشكيلها ويزيدها… ربما كان علي أن أضيف هذا الفكرة ضمن تجلياتي اللغوية العشرة التي كتبتها آنفا فتصير أحد عشر تجليا… والتي للأمانة لم تكن بعشر أصلا أو بأي رقم، فالرقم مفتوح كلما فتح علي… ليس للترقيم في مثل هذه الأمور ما يستند عليه إلا كونه أمرا ذوقيا بما يراد إيصاله منه… ودعوني أخبركم أن فكرة التقسيم والحصر والعد والعنونة حين معالجة الأفكار من الأمور التي تحيرني كثيرا، إذ دائما هناك استطراد أو ما يمكن أن يضاف أو يستثنى…
وهنا يحضرني كتاب (دين الحياء) لطه عبد الرحمن الذي أثار أسلوبه حيرتي…

فمن ناحية أعجبتني معانيه جدا، فهو يرفع قارئه لعالم آخر وهو يتحدث عن أسماء الله الحسنى واستمداد القيم منها ومحاولة التخلق بها كهدف أسمى للوجود الإنسي، ولكن من ناحية أخرى هناك ذاك العد والتقسيم غير المريح، وبقدر تثميني لنحته للكلمات واستمداده من التراث الإسلامي بقدر انزعاجي من قالبه المرتب بزيادة، ربما أن كتابته بناؤها هندسي منضبط الحدود يعالج مادة لا أرى هذا الوضوح بحدودها، كبحث أكاديمي بموضوع ليس بحثا بحتا بقدر ما يمتزج بما هو ذوقي وفكري وجمالي، أسلوب رياضي لأفكار لا تملك يقينية وحصر الأعداد. بيد أن طه عبد الرحمن أمين معك، دائما يبتدئك بافتراضات معينة، إن أردت أن تمشي معه الرحلة فعليك أن تسلم بها ابتداء… ولكني في كل مرة وفي منتصف الطريق أعود وأنظر للوراء وتراودني نفسي بالسؤال عن الأسس وأن لماذا قسم كيت إلى كيت ولماذا لم يكن تقسيمه بطريقة أخرى ولماذا الحصر بهذا العدد تحديدا، أو اختار هذا الاسم الجليل من الأسماء الحسنى وليس ذاك، ثم أتذكر شرط البدء… قد أخبرنا في أحد كتبه أنما هذه أدوات يبتدعها الفيلسوف لمقاربة الظاهرة المدروسة، وعلي في كل مرة أن أذكر نفسي بهذا حتى أستمر معه في ما بناه… لطالما وددت لو أملك هذه القدرة على الحصر الصارم… كيف أحشر الإمكانات ولو تقريبيا بقالب ما، وكيف أبني أفكاري في بناء هندسي محدد ومنضبط وله مبتدأ مناسب ومنتهى جازم، ثم أعنونه عنوانا موضوعيا… كيف أؤلف كتابا ولا أجد عنوانا غير كونه سلماوي قد حصرته بفقرات ليست بحاصرة…
وكثيرا ما يحضر في نفسي عنوان لكتاب بول تيلتش الذي حين أراد أن يؤلف مؤلفا عن الحقيقة والمطلق قبيل وفاته ما اختار له إلا عنوانا ذاتيا: (بحثي عن المطلقات)…

إذ كيف لنا نحن المقيدون مكانا وزمانا وقدرة وكلمات أن نعالج المعاني المطلقة… لا نجد إلا أن نتحدث عن سعينا نحوها… ونتفنن في ابتداع فصول وتعداد وحصر محاولة لإمساك طرف منها… كما قال طه عبد الرحمن مقولته تلك التي أنا دائمة الاستحضار لها: (فليس يغيب عن حصافة رجل “فقه العلم” أن الأجهزة النظرية التي نصطنعها للوصف أو التحليل أو التفسير ليست إلا حيلا أو قل “ألعابا” نبتدعها ابتداعا لنلاحق ونقارب بها الظاهرة المدروسة، حتى يقوى سلطاننا عليها؛ ومهما بلغت من الكفاية الوصفية والتفسيرية، فإن هذه الأجهزة تظل غير مشاركة في وجود هذه الظاهرة ذاتها، إذ يبقى دائما في الإمكان أن نستبدل مكانها أجهزة أخرى لا تقل عنها إنتاجية إن لم تفقها، من غير ادعاء الاشتراك مع الظاهرة في الوجود ألبتة.)
عسى الله أن يؤتيني من فضله ويعلمنيها، قد انتصف بي العمر ولم أعثر بعد على مفاتيحها…

على أية حال أكان هو أنوش أو آدم أو إدريس على رسل الله السلام، أو أيا كان هو المبتدأ أو كيفيته في خدش الخدوش أو ما خدشه حينها… فإن الكتابة مما امتن به الرب على مربوبه الإنسي ليتسامى به ويرتفع، أكرمه بقيد يقيد به ما يفتح عليه من مطلقات المعاني ويتجاوز به قيده في الزمان والمكان، ومن دون أن يستحضر كيف يقوم بهذا… ومن سوى الكريم الغاية في الكرم ليفعل… (وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم).
—-
للنظر في موضوع العشرة تجليات
في السعي نحو اللغة تعزيا!
https://helali.net/wp/archives/478

سلمى
24 شباط 2025