
كتاب أعلام النساء الدمشقيات لمطيع الحافظ والصادر عن دار المكتبي، كتاب ضخم يزيد عن الألف صفحة، حاول أن يجمع فيه مؤلفه أعلام النسوة اللاتي سكن دمشق وما حولها من كتب التراجم، منذ بداية عهد الصحابة وحتى عصرنا الحاضر ممن توفين فيها أو ولدن بها، وقسمه حسب القرون، وقد وجدت في صنيعه هذا فائدة جمة لأجل التحليل، إذ برز التفاوت الكبير في أعداد النسوة باختلاف القرون ونوعيتهن، ثم أيضا اختلاف المعلومات المتوفرة عنهن ونوعيتها، وفيما يلي بعض الملاحظات:
1- في القرن الأول أي الصحابة والتابعين، يظهر الاهتمام ببعض تفاصيل شخصياتهن وحيواتهن وما يروى عنهن، وهذا أمر مفهوم، حيث أنه كان هناك اهتمام بتفاصيل كل أحد عاصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من الواضح انطباع شخصياتهن بالكرامة والعزة والحكمة وقوة القول، ثم بعد ذلك بدأ التدوين عن نساء المسلمات الحرات يخف تدريجيا ولم نعد نستطيع تصور شخصياتهن، في مقابل ازدياد ظهور الجواري وقصصهن وكلامهن وفعالهن، حتى بتن هن التمثيل لمعنى المرأة المسلمة في الذهن، وذكرت مرة الصديقة سوسن العتيبي Sawsan Alotaibi أثر هذا الغياب للحرات وحضور الجواري المكرسات للمتع والخدمة على تشكل صورة المرأة في تلك العصور وما بعدها مما أثر على تصورات العلماء وتنظيراتهم العلمية المتعلقة بهن. ويذكر محمد أكرم الندوي صاحب (موسوعة الوفاء بأسماء النساء) فكرة أخرى عن سبب تراجعهن وهي وجود تناسب عكسي بين حضور المرأة في المجتمع وحضور الفلسفة اليونانية فيه، فنظرا لكون الفلسفة اليونانية تحقر المرأة وتعتبرها جنسا أدنى، فالندوي يقول أنه كلما قوي حضور الفلسفة اليونانية في عصر ما، كان حضور النسوة يتراجع حينها وتنحط صورتها، وكلما خفتت اليونانية كان حضورهن يرتفع ثانية. على أية حال، كتاب الحافظ لم يركز على هذه النسوة لحسن الحظ. أما أسماء السيد في كتابها (المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام) فقد ذكرت فكرة أن تحول ساحة رواية الحديث إلى تخصص دقيق وانتشار الرحلة في طلب العلم، وهذا ما لم يكن مستطاعا للمرأة ضمن الظروف المتاحة حينها، فكان التغافل عن ذكرهن نتيجة عرضية غير مقصودة…
2- ثم عادت النسوة للظهور بالكتب ثانية وازددن بشكل كبير جدا، ولذلك فثلثي الكتاب هو عن أعلام النساء في القرنين السابع والثامن الهجريين أي الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، حيث تشعر وكأن دمشق كانت شعلة معرفة في كل ركن وزاوية، ولشدة ما ذكر عبارة أن فلانة العالمة دفنت في قاسيون، هيء إلي وكأن كل شبر فيه تحته قبر لعالمة أو محدثة دمشقية، ومن الواضح أن ثقافة حضور مجالس سماع الحديث أو أي كتاب فقه أو عربية أو غيره للنساء والرجال كانت على أشدها، بالإضافة إلى عادة تسجيل أسماء الحاضرين من الرجال والنساء والولدان لتلك المجالس، ومع كثرة النسوة المذكورات إلا أن تراجمهن كانت فقيرة بالمعلومات الشخصية عنهن، فلا تكاد تجد شيئا فيما وراء نسبها وشيوخها وتلامذتها والسماعات التي ورد اسمها فيها، ولا تجد شيئا من أقوالهن ولا أحوالهن، وصراحة هذا ما قد يجعل الكتاب مملا لمن كان يرغب في التعرف عليهن كهن ولا يرغب بمثل هذه المعلومات التقنية… وقد ذكر الندوي سببا لغياب تفصيل أكثر عن أحوالهن ونقولات عن أقوالهن، وهو خفاء هذا على المترجم، فأحوالهن كانت مبينة على الستر، ونقل كلاما كهذا لصاحب كتاب (الجواهر المضية في طبقات الحنفية) يقول فيه: (هذا كتاب أذكر فيه من وقع لي من العلماء النساء من أصحابنا ولم يقع لي إلا القليل جدا، ولا شك أن مبنى حال النساء على الستر).

3- إن كان خفاء حالهن سبّب عدم الاتساع في المعلومات عنهن، فلماذا لم يكتبن، فعدد من ذكر أنهن ألفن مؤلفات قلة، قد حاول جمعهن محمد خير يوسف في كتابه (المؤلفات من النساء ومؤلفاتهن في التاريخ الإسلامي)، وقد كن عالمات وكاتبات فما يمنعهن؟ مثلا كانت زوجة الفقيه الحنفي الكاساني فاطمة السمرقندية أفقه منه وهي ابنة فقيه أيضا، وكانت توقع على الفتاوى بعد توقيع أبيها، وكان إن استعصت على زوجها مسألة رجع إليها والجميع يعلم بهذا، فلماذا لم تكتب مع أن لوالدها مؤلفا ولزوجها مؤلفا؟ بل إن توقيع الفتاوى من الفقيهات بالمنزل مع العالم كانت عادة في المكان التي أتت منه فاطمة وليست حكرا عليها، فقد ذكر الندوي عن صاحب الجواهر المضية: (وقد بلغنا عن بلاد ما وراء النهر وغيرها من البلاد أنه في الغالب لا تخرج فتوى من بيت إلا وعليها خط صاحب البيت وابنته وامرأته أو أخته).
هذا سؤال رافقني كثيرا، وقلبته طويلا، وحاولت البحث عن جواب لكن لم أعثر على شيء، فإني أحاول تحليل الأمر بأنهن ربما اكتفين بالتدريس الشفوي لأن أثره المباشر أوضح ولقلة تكاليفه فهو أسهل لوضعهن مع أعباء الأسرة، وأظن اللواتي كتبن ربما بقيت نسخ ما كتبنه في منازلهن وبين معارفهن، إذ ليس من دور نشر ولا تلاميذ تهتم بالنقل والحفاظ على إرثها، وحظ كتاباتها كان الغفلة عنه كحظ أحوالها… وأيضا هناك ملمح آخر أنه ربما لم تكن الرغبة بالتواجد في المجال العام عبر الكتابة والظهور ثقافة في ذلك الزمان فيعملن أكتر على الكتابة أو إبراز ما لديهن والحفاظ عليه ونقله، مكتفيات بما كتب لتوه مع التصحيح والتصويب والجدل الشفاهي مع العلماء كما كانت تفعل فاطمة بنت عياش البغدادية… ولم يظهر لأجدادنا ضرورة بذل مزيد جهد لأجل ظهورهن وإظهارهن، ولم يكن يشغلهم كثير من الإشكالات التي تشغلنا فيحاولوا تبديدها ولم يكن هناك منافس لهن من نساء طوائف وتيارات أخرى فيشعرون بالخطر، لكن يقينة أنا أنهم لو علموا ما كان في ابتعادهن عن الظهور من فتنة لمن بعدهم لفعلوا وفعلن…

4- هذه المرحلة الغنية بدأت بالتناقص تدريجيا حتى أنه في القرن السابع عشر الميلادي وما بعده لا يكاد يجد المؤلف اسما لامرأة، وإن وجد فلا يجد شيئا يكتبه عنها، لا إجازات لا شيوخ لا مآثر لا سماعات ولا حكم مأثورة لا شيء، سوى فلانة بنت فلان أو زوجة فلان ومدفونة في المكان الفلاني وكأنه دائرة نفوس، فالمصدر صار سجلات المحاكم الشرعية أو لوحات القبور! رحمهن الله جميعا، لكن هذا لم يعد اسمه (أعلام النساء)، وإنما نماذج لأسماء نساء وعوائلهن وجدن في تلك الفترات! يمكن أن يستفاد من هذا في دراسات أخرى تعنى بالأسماء والعوائل أو شواهد القبور أو تفاعل النساء مع المحاكم الشرعية وحضورهن فيها، وهذا قد قرأته في أبحاث نفيسة فعلا (أذكرها ربما في موضوع آخر)، لكن في هذا الكتاب الذي هو مكرس للأعلام منهن لو لم يذكر هاته النسوة لكان أولى بدل التكثر الذي لا يفيد، حتى يكون النظر وتقييم الفترة التاريخية أدق…
5- ثم بدأت تظهر أسماء نسوة من نوع آخر، من طوائف أخرى وتوجهات أخرى، في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، من خريجات المدارس التبشيرية وذوات النشأة العلمانية، وهكذا بعد أن كانت الرائدات في المجتمع من الفقيهات والمحدثات والحافظات والناسخات ذوات صبغة إسلامية طوال القرون الماضية وكان المجتمع مشجعا لهذا ومتناغما معه بذكوره وإناثه وكبيره وصغيره بوجهائه وفقراءه، اختفين تماما وباتت رائدات المجتمع ذوات منزع علماني، حتى النساء اللواتي التزمن فيما بعد وكن رائدات في العمل الإسلامي، كانت نشأة كثيرات منهن علمانية ابتداء، وهذه والله كانت مثلبة كبيرة لعلماء ذلك الزمان أن نسائهن لم يكن هن الرائدات، وهي ثلمة أثرت على شكل المجتمع وتوجهه، فبعد أن كانت نساء البيوتات العلمية هن رائدات المجتمع، صرن آخر الواصلات، إن وصلن… ولست أدري سبب تحول الحال، هل للحكام الذين تعاقبوا وخلفياتهم الاجتماعية ونظرتهم للنساء أثرت على توجه علماء البلاد، عباسية سلاجقة أيوبية مماليك عثمانيين؟ هل كان لغزو التتار أو الحروب الصليبية أثر مثلا؟ أو هل كان لعناية الحكام بالشام من كونها مركزا ثم إهمالها لانتقال المركزية لمكان آخر دور في هذا؟ هل ركن العلماء لما أنجزوه فتكاسلوا عن المتابعة حتى مال المجتمع للجهل بنسائه ورجاله؟ كلها تساؤلات برزت من نثرات هنا وهناك، ولم تمر معي حتى الآن دراسة اهتمت بالأمر تماما.
6- ثم بعد أن مالت الكفة وفشت العلمانية، بدأت تظهر النسوة الملتزمات أكثر من بعد منتصف القرن العشرين وبدأ الخطاب الديني بتشجيعهن لكن على استحياء وبسقف منخفض جدا، وذلك بعد أن لطمتهم فكرة انتشار العلمانيات اللواتي غزون المجال العام، في مقابل تحجيم المتدينين لنسائهم… ثم ازدادت المثقفات الملتزمات وغالبا كانت جهودا فردية من تلقاء أنفسهن من دون تغيير كبير بالخطاب العام الديني مع استثناءات طبعا، مع الصعوبات والتحطيم من المشابه والخصيم على السواء…
7- من فضل الله علينا نحن جيل آخر الزمان أنه أتيح لنا فرصة تاريخية كبيرة بأن نشهد الصعود والهبوط للتقييم والنظر ومحاولة عدم تكرار الأخطاء. عتبنا كبير وعميق على الخطاب الديني المحلي بعمومه للأسف اللهم إلا ثلة منهم… ليته يصبح أكثر عمقا في خطابه للمرأة وأكثر نضجا، ويكف عن التعامل معها كإشكالية تحتاج إلى حل (مستعيرة هنا عبارة هبة رؤوف عزت)، وإنما يعتبرها كما اعتبرها القرآن ذاتا كاملة عاقلة مسؤولة مخاطبة بنفس الدرجة، ذات كرامة كهي، لها تساؤلات فكرية واهتمامات معرفية وقدرات إبداعية كأي بشري فيما وراء اليومي من شؤون أسرته وحياته، ليته يهتم بخطابه بربطها بهموم أمتها بمعناها الأوسع، ويصبح أقل نبذا للمبدعات والمثقفات بخطابه القاصر على جوانب معينة من حياتها وجزء محدد من عمرها (والذي في جزء منه يعالجه بنفس شعبوي لا يرتقي بالمخاطبين ويحمل روح الرسالة وكمال خلقها، وفي جزء آخر فيه يحمل آثار تقلبات صراعات غربية وتوجساتها ضخمت في بلادنا أكثر من حجمها، الخطاب الفيكتوري التقليدي البائس المحجم للمرأة _وسأتحدث عن هذه الملامح الفيكتورية في الخطاب الديني في موضوع آخر إن شاء الله_، وما نتج عنه من تيارات نسوية ثائرة عليه حتى انقلبت على نفسها وأكلتها، ثم ما أفرزته من ذكورية ريد بيلية تناطح جميع خلق الله بما فيهم أنفسهم)… وأظن تفاؤلا أن الثورة بحمولاتها الثقيلة التي زلزلت المجتمع السوري زلزلة قد فتحت الأعين لضرورة مثل هذه المراجعة…
8- وجود المرأة الملتزمة الكفؤ في المجتمع بكل مناحيه حتى وصولا لأعلى الهرم فيه ومساهمتها في تشكيل الرأي العام ليس برفاهية ولا يعالج بشكلية، بل هو ضرورة… هناك مساحة للنساء في المجال العام لا تقبل الفراغ، _ووالله من نكد الزمان أن ترى أخاك وخصمك ضدك، فالعلمانيون يدفعون بشبيهاتهم ويناصرونهن وترى كثيرا من الملتزمين ينكافون الملتزمات ويؤذونهن بخطاباتهم_، إن لم يشجع المجتمع المتدين نساءه على تطوير أدواتهن حتى أقصاها واقتحام المجال العام بكفاءة كل بما تحسنه وعلى قدر طاقتها ومواهبها وتسهيل السبل لها بدل عرقلتها ومدافعتها أو تحجيمها بأدوار بسيطة إكراها، فستملأها أخريات على كل الأحوال لا يقمن لهم ولدينهم وزنا، وسيعدن تشكيل المجتمع على وفق أفكارهن… وإن كان قد حصل هذا سابقا في غفلة من الزمن، ودفع الجميع ثمنه غاليا غاليا، فما أشد سواد احتمال تكرره ثانية إن تكررت الظروف… وهي مركب واحدة، الجميع سيغرق بها بنسائها ورجالها، إن لم نأخذ على أيدي بعضنا بعضا ونتناصح…
9- أنهي بثلاث لفتات عامة من دون تعليق:
1. {وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲ یَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَیُطِیعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ سَیَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ} [سُورَةُ التَّوۡبَةِ: ٧١]
2- عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوما من ذلك والجارية تمشطني، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس، فقلت للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقلت: إني من الناس.
3- خرج عمر رضي الله عنه من المسجد ومعه الجارود العبدي، فإذا بامرأة برزة على ظهر الطريق، فسلم عليها عمر رضي الله عنه، فردت عليه، أو سلمت عليه، فرد عليها، ثم قالت: هيه يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميرا في سوق عكاظ تصارع الصبيان، فلم تذهب الأيام والليالي حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب منه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت، فبكى عمر رضي الله عنه فقال الجارود: هيه، فقد أكثرت وأبكيت أمير المؤمنين فقال له عمر رضي الله عنه وعنها: أوما تعرف هذه؟. هذه خولة بنت حكيم امرأة عبادة بن الصامت التي سمع الله قولها من سمائه، فعمر والله أجدر أن يسمع لها.
هذه كانت بعض الملاحظات، لا أدعي صحتها بالمطلق، وإنما هي محاولة لإجابة عن تساؤلات، ما زلت أبحث فيها… ولي عودة أخرى…

—
ملاحظات
– ما نقلت عن محمد أكرم الندوي ذكره في محاضرته (النساء المحدثات في الإسلام)
https://www.youtube.com/watch?v=7tG7jECeFVw
وقناته على التلغرام
https://t.me/DrAkramNadwi
– توصيف هبة رؤوف عزت ورد في محاضرة لها (ندوة تمكين المرأة) التي أقامتها مؤسسة علماء والدعاة الثورة السورية
https://www.youtube.com/watch?v=ZL03wPYE3Co
سلمى
أوائل شباط 2025