
فيما يتعلق بالجدل مؤخرا عن الأكاديميات الأشعرية والسلفية، هناك ثلاثة كتب _برأيي الشخصي الذي لا يلزم أحدا_ تعطي تصورا شاملا وتوسع الأفق عن أصل هذه المدارس وسبب نشوئها وأساليب مناهجها في النظر، وتحاول الإحاطة بأسلوب منصف الفروق بينها وأثر السياق التاريخي في نشأتها وكيفية تطورها ثم كيف صارت معيارا لفهم النص والتصنيف، كل بحسب طريقة معالجته للموضوع… وهي لثلاثة مؤلفين من ثلاثة بلدان.
الأول كتاب الأستاذ السعودي ياسر المطرفي، (العقائدية وتفسير النص القرآني؛ المناهج، الدوافع، الإشكاليات، المدونات: دراسة مقارنة.) وهي ترصد بشكل مسهب العقائدية ويعني بها تجليات الانحياز لرؤية عقدية ما، على تفسير النص القرآني، بغض النظر عن مقدار هذا الانحياز قل أو كثر، مستعينا بالتحقيب التاريخي ومقارنا بين أول النشوء لتيار أو رؤية ما ثم كيف تطورت عبر اشتباكها مع محيطها وما نتج عن ذلك، مع الفروق بين ما هو متقدم ومتأخر منها، حتى في التيار الواحد…
الثاني كتاب الأستاذ الأردني نارت قاخون، (أنساق التأويل: البحث عن الذات الإلهية وراء حجاب اللغة،) وفيه ينتهج أسلوبا آخر في إبراز المسألة، عبر استخراج أسلوب التأويل للأسماء والصفات الذي استخدمه ستة من العلماء من مذاهب مختلفة، وعبر المقارنة، نرى كيف أثر الجدل الكلامي على خيارات بعض علماء السنة في بعض المواضع من تأويلاتهم فيما بينهم وفيما يخالف ما قرره واحدهم من مقدمات لمنهجه ابتداء، كما تشاهد كيف ابتعد آخرون كليا منذ بداية تأسيس المنهج للاختلاف في التصور المعرفي والوجودي…
الثالث كتاب الأستاذ الليبي محمد محمد يونس علي، (علم التخاطب الإسلامي؛ دراسة لسانية لمناهج علماء الأصول في فهم النص) فهو كتاب وإن كنت قرأته زمانا _لما كنت لساتني بالشام ردني الله إليها مردا جميلا_ إلا أنه كان له أثر عظيم علي في قراءاتي فيما بعد. الكتاب ليس كسابقيه، فهو لساني بالمقام الأول، يهتم بإبراز النظريات اللغوية عند علماء الأصول في آلية فهم النص والمبادئ التي اعتمدوها، كما أنه يهتم فقط بالمناهج القصدية أي التي تهتم بتحليل الخطاب عبر البحث عن مراد المخاطِب بالقرائن، وهما نموذجان، نموذج الجمهور ونموذج ابن تيمية، والاختلاف بينهما في آلية النظر للنص بسبب الاختلاف في الأصول النظرية للغة في تصور كل، وخاصة فيما يتعلق بقضية الوضع والاستعمال وما انبنى عليها من الحقيقة والمجاز…
وهناك كتاب رابع مهم، للمطرفي أيضا، (مسألة مشؤومة؛ ما تفعله الدوافع النفسية في صناعة الانقسام والجدل الكلامي؛ كتاب الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة أنموذجا) وهو وإن لم يتح لي الاطلاع عليه بعد، ولكن قرأت البحث الذي انبنى عليه والمتوفر في موقع مركز نماء، وهو (وثيقة تاريخية مبكرة لتدخل العوامل النفسية في الانقسام والجدل الكلامي؛ كتاب الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة) وهو بحث عظيم الحقيقة، لا يقل عن عظمة كتابه العقائدية… البحث يعالج أحد المسائل الكلامية لا من حيث موضوعها وإنما من زاوية ثانية، وهي مسألة الدافع النفسي الذي أدى للاختلاف في تلك المسألة وليس لأسباب موضوعية وأسس علمية، ومن خلال هذه المسألة يمكن أن تقيس على كثير من المسائل الكلامية والتأويلات في فهم النص التي نشأت على أسس الصراعات وردات الفعل، فالاحتقان والشعور بضرورة الاصطفاف يمكن أن تكون هي المنطلق الأول في فهم المسألة حتى تعلو غباشتها النظر على المسألة كما هي، وقد أبرز هذا كتاب قاخون أيضا في بعض النواحي، حتى لتبدو مساحة الخلاف في مسألة ما شبه شكلية أو تكون في حقيقتها أقل بكثير مما تبدو عليه في نفس المتحفز. هذا لا يعني أن ليس هناك خلافات جوهرية أيضا، هناك ما هو كذلك، وهناك ما ليس بكذلك وتضخم بسبب أمر خارج عنها.
وهو بالمناسبة عين ما نجده في المسائل التي لها علاقة بالمرأة، فالتحفز والاصطفاف والامتحان والاتهامات وسوء النوايا يعلو النظر ويسبق الفكر في كثير منها حتى يفسده ويفسد معه الخلق والأدب.
وأختم بقول لابن قتيبة من بحث المطرفي واصفا حال بعض المختلفين من علماء الأمة: “إن دُعوا أنفوا، وإن وُعظوا هزأو، وإن سُئلو تعسفوا، وإن سَألوا أعنتوا، قد فرقوا الدين وصاروا شيعا فهم يتنابزون بالألقاب ويتسابون بالكفر ويتعاضدون بالنحل ويتناصرون على الهوى.” أعاذني الله وإياكم من أن نكون كذلك…
هذه الكتب هي من أفضل الكتب التي التقيت بها في هذا السياق في مسيرتي القرائية _الثلاثة تحققا والرابع ظنا راجحا_ ولا أدعي أني أحطت علما بما كتب في هذا المجال، ولا حتى قاربته، ولا أنا ذات تخصص، إلا أن هذا ما استفدت منه شخصيا في جعل نظرتي أكثر منهجية… واتساعا… والكتب ليست يسيرة، ربما أيسرها وأشملها كتاب العقائدية للمطرفي، وهو أول ما أنصح به منها، لكنها عموما تستحق بذل الجهد فيها لمحب المعرفة…
وهنا بحث المطرفي
https://namajournal.com/index.php/nj/article/view/310
سلمى
آخر كانون الثاني 2025