مدرسة الحديث النورية بدمشق وذكرى قطة مرت بها!

مدرسة الحديث النورية للإناث بدمشق

تتحدث الباحثة الأمريكية من أصول هندية (أسماء سيد) في نهاية كتابها الممتع (المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام) والذي صدر عن دار مدارات بترجمة أحمد العدوي، تتحدث عن الممارسة التي قامت بها النساء في دمشق في العصر الحاضر لإحياء تقليد رواية النساء للحديث من جديد، وذلك عبر افتتاح (مدرسة الحديث النورية للإناث). وهي تجربة فريدة من نوعها في العالم الإسلامي، محاولة لإحياء ما اشتهرت به دمشق يوما حين كانت تزدحم براويات الحديث. وتعقد الباحثة مقارنة بسيطة للفرق بين نموذج الرواية في العصور الكلاسيكية وبين هذه المدرسة. ورغم بساطة ما ذكرته، فإني أحببت نقل أجزاء من هذه المقارنة. ولكن قبل نقلها، فإني أود ذكر أن مبنى المدرسة النورية هذه ليس هو مبنى المدرسة النورية المعروفة، وإنما تقع هذه في الزاوية الحلبية للجامع الأموي، وقد كانت مكانا مهملا قبل أن ترمم وتتحول لهذه المدرسة (كما يذكر موقع نسيم الشام)…
كما أن لواجهة هذه المدرسة ذكرى محفورة في ذهني رغم مرور حوالي العشر سنوات، حيث ما زلت أذكر أني حين مررت قربها ذات مرة أنا وصديقتي العزيزة وفاء، استوقفني منظر فريد لقطّة تتدلى بانهماك عجيب داخل برميل ملون ومهترئ قرب واجهة المدرسة. كانت القطة لاهية عن كل شيء حولها متشبثة بقدميها تبحث بتفان… ما تجرأت أن اقترب لئلا أفسد عليها انهماكها، فالتقطت لها من على بعد صورة ما زلت أحتفظ بها… وليس معي في موبايلي صورة التقطها في الشام سواها! وحتى ما احتفظت بصورة واحدة لي أنا ووفاء كل تلك السنين، وما علمنا أننا سنفترق، جمعنا الله معا على أحسن حال… حتى وفاء ما زالت تذكرها، رغم عدم إعجابها بالقطط، ويا للعجب! وإليكم الصورة إحياء لذكرى تلك القطة:

صورة قطة ظريفة قبل بضع سنوات قرب المدرسة النورية بدمشق
صورة قطة ظريفة قبل بضع سنوات قرب المدرسة النورية بدمشق

وفي ما يلي أجزاء من المقارنة من الكتاب:

“في عام 2001 سجلت <<مدرسة الحديث النورية>> للنساء أولى طالباتها. وتقع تلك المدرسة المؤسسة في البلدة العتيقة بدمشق ملاصقة للمسجد الأموي، حيث عقدت عائشة بنت محمد بن عبد الهادي مجالسها للحديث في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، وعلى بعد بضعة شوارع من المسجد الذي روي أن أم الدرداء قد درّست فيه في القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، حيث لم تزل النساء يتجمعن لمتابعة تعليمهن الديني ثمة. وقد جذبني فضولي المتعلق بفهم مظاهر رواية المرأة للحديث إلى مدرسة الحديث النورية، فحرصت على زيارتها عام 2010. [تستند ملحوظاتي على هذه المدرسة إلى زيارة قمت بها لتلك المؤسسة في أوائل عام 2010. وقد حصلت خلال زيارتي تلك على بعض المواد التي يتم توزيعها على الطالبات، والتي تناولت المناهج الدراسية للمدرسة. وأود أن أوضح هنا أني لم أجر دراسة تفصيلية على المؤسسة (وذلك على الرغم من أنها تستحق بكل تأكيد مثل هذه الدراسة). لذلك فملحوظاتي هنا انطباعية لا أكثر]. وحتى قبل زيارتي لتلك المدرسة، كنت قد سمعت عن مآثر خريجاتها، وكيف أن عددا قليلا منهن قد حفظن صحيح البخاري عن ظهر قلب، هذا فضلا عن غيره من مجموعات الحديث المعروفة. لقد كنت على يقين من أنني قد وقعت على النموذج المعاصر المناظر لمثيله من تعليم المرأة الحديث في الحقبة الكلاسيكية، والذي من شأنه إنارة الكثير من التفاصيل الدائرة في فلك موضوع دراستي التاريخية. بيد أن توقعاتي لم تكن في محلها. فمدرسة الحديث النورية، تعد من بعض النواحي، الأولى من نوعها. في الواقع، لا ينبغي هذا الاستنتاج أن يكون مفاجئا، وذلك نظرا للأنماط المتنوعة التي تميزت بها مشاركة المرأة في رواية الحديث على مدى قرون عشرة. إلا أن الثابت الوحيد _ربما_ تمثل في الإشارة إلى ممارسة النماذج النسائية المبكرة والرائدة مثل عائشة بنت أبي بكر.”

ثم تذكر المؤلفة ثلاثة فروق بين هذه المؤسسة في القرن الحادي والعشرين، وبين سابقاتها سواء في عصر صدر الإسلام، أو في الحقبة الكلاسيكية:

“أولا: كرست تلك المؤسسة حصرا لتعليم الحديث للنساء. واحتوى المبنى نفسه على الفصول الدراسية، فضلا عن بهو للاستقبال، ومكتبة ومركز للحاسوب، إضافة إلى مقهى مخصص للطالبات. وجميع المعلمين والطلاب هناك من النساء فحسب، وذلك على الرغم من أن نفرا من كبار العلماء من الرجال _مثل نور الدين عتر_ شارك في تأسيسها، وأضحى عضوا بالمجلس الاستشاري بها. على النقيض من ذلك، كانت مجالس عدد من عالمات الحديث من النساء، سواء في عصر صدر الإسلام أو الحقبة الكلاسيكية مختلطة، ضمت الرجال إلى جانب النساء، كما عقدت في مناطق مختلفة.
ثانيا: تطورت أهداف دراسة الحديث بالمثل. فلم تعد المدرسات وطالبات الحديث في مدرسة الحديث النورية يعنين بالاستنساخ، أو التأدية الدقيقة لنصوص مثل الفرج بعد الشدة أو ذم المسكر. بل ثم دورتان رئيستان في المنهج الدراسي: أولاهما: علوم الحديث ومصطلحه. والثانية: دراسة القراءات السبع وحفظها. فضلا عن ذلك تتطلب المناهج الدراسية مستوى متقدما في اللغة العربية، ذاك أن الطالبات هناك يركزن على قراءات لعدد قليل من النصوص المتداولة على نطاق واسع، فضلا عن مناقشتها، ومن بينها كتاب رياض الصالحين للنووي (المتوفى 676هـ/1277م). ومن خلال هذه المشاركة، تهدف تلك المؤسسة إلى إحياء مركزية دراسة الحديث بوصفها جزءا لا يتجزأ من التعليم الديني للمرأة. “

ثم تذكر فرقا ثالثا: وهو أن “علو الإسناد ليس أولوية في هذه المؤسسة. ففي مدرسة الحديث النورية، لايسمح للطالبات بالتسجيل إلا بعد بلوغهن السادسة عشرة، ولا تقبل _ثمة_ إلا الحاصلات على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية حدا أدنى.” بينما في الحقبة الكلاسيكية كانت بداية المحدثات بسن صغيرة، وبعض الحالات قبل سن التمييز حتى، حيث يأخذهن أهلوهن للحصول على إجازة من شيوخ بلغوا من العمر أرذله، ثم يعكفن على دراسة ما أجزن به بعد أن يكبرن! وهذا حصل بعد عصر تدوين الحديث وليس قبله طبعا… كما أن الطالبات المعاصرات قد تشكلن وفق مناهج دراسية حكومية معاصرة قبل الالتحاق بالمدرسة النورية.

“إن حالة مدرسة الحديث النورية ليست سوى مجرد مثال على الكيفية التي تتغير بها المظاهر المختلفة لذلك التراث عميق الجذور للتعليم الديني للمرأة المسلمة، وذلك على نحو صارخ عبر الزمان والمكان. […] وهكذا فإن الطالبات السوريات في مدرسة الحديث النورية […] بتن ينظرن إلى أنفسهن على أنهن متوافقات مع النموذج المثالي الذي شكلته عائشة بنت أبي بكر وفوجها من النساء منذ زمن بعيد. وفي الواقع إن هذا القالب فعال للغاية، ليس لأنه يتيح تكرار ممارسات الصحابيات فحسب، بل لأنه يفي بالمتطلبات التاريخية، ويسهل التغيير كما يتجلى في ذلك التاريخ الحيوي والمتجدد لرواية المرأة للحديث.”

شعبان 1440
نيسان 2019
سلمى