كتاب مدخلي تعريفي بعلم اجتماع الدين (أي دراسة دور الدين في المجتمع)… ينقسم الكتاب إلى فصول، كل فصل عن واحد من العلماء المؤسسين لهذا الفرع المعرفي، وملخص لنظرياته، ثم أهم الانتقادات التي وجهت له. هذا في جزء المقاربات الكلاسيكية… أما المقاربات المنشقة فهو عن بعض الدارسين الذين أسهموا في هذا الفرع المعرفي بشكل أو بآخر…
كانت تجربتي مع الكتاب أشبه بالتفكه والنزهة وليست معافرة ومعاركة، فالترجمة التي قام بها المترجم التونسي (يوسف طاهر الصديق) سلسة بديعة جعلت قراءته متعة خالصة… ترجمة تجعل الذهن يتفاعل مع الأفكار تأملا وتمحيصا بدل انهاكه وتعطيله في محاولة فك عويص طلاسمها وقلق عباراتها… كما أن مؤلفي الكتاب قد وفقوا في أسلوب عرض مادتهم…
أما بالنسبة لموضوع الكتاب فقد كانت المقاربات فيه مختلفة باختلاف الباحثين وتعريفهم للدين ومنطلق أبحاثهم وزاوية نظرهم، فلم يكن هناك تعريف واحد ولا منهج واحد، مما أدى لاختلاف النظريات والمدارس والتيارات، وقد نشأ بعضها ردا على بعضها الآخر…
فبعضهم دراسته لظاهرة الدين ذات بعد واحد وآخرون رأوها مركبة وأكثر تعقيدا… وبعضهم انطلق من الدين المنتشر في دياره وبعضهم انصب اهتمامه على الشاذ النادر… وهناك اختلاف في تموضع الدارس مع موضوع دراسته فبعضهم كان يدرس كداخلي وبعضهم كخارجي (كما يظن)… وهناك أيضا اختلاف علاقة الدارس بالدين فبعضهم متدين بدين مؤسسي، وآخر متدين بدين ذاتي، وبعضهم ملحد مادي وبعضهم ملحد صوفي…
وأكثر ملاحظة تلفت نظر القارئ في هذا التتابع، هو انطلاق هذه النظريات بمعظمها من المسيحية وبنيتها، والبناء عليها، وبحال المجتمع الذي كان يعيش فيه الدارس… بمعنى آخر أنه محاولة بسط للملاحظات المحدودة لظاهرة ضمن ظروف مجتمع معين على كل الأديان، وتقديمها على أنها ملاحظات كونية… وقد كانت هذه ضمن أهم الانتقادات التي كانت توجه لنظرية هذا العالم أو ذاك…
في نهاية المطاف فإن الباحث قد تكوّن بأدواته وعقله ضمن سياق معين ويبني مقدماته انطلاقا منه… بيد أن السياق مهما اتسع فهو قاصر، وربما أفضل مثال لمحدودية السياق هو العالم الذي تأثرت دراسته للدين بنوعية المجلات والمصادر المتاحة له في السجن حيث قضى سني عمره…
هناك من حاول المناورة على سياقه، فانطلق بملاحظاته من دين وثني لبقايا قبيلة بدائية في استراليا افتراضا منه أن هذا هو الشكل الأولي للدين… فكانت أهم الانتقادات التي وجهت له، أن بناء على ماذا افترضت آلية التزام هؤلاء الأشخاص بديانتهم هذه وشعورهم تجاهها لتخرج بنتائجك؟ سيما وأنه اعتمد على ما قرأه عنهم، ولم يعايشهم أو يعاينهم على أرض الواقع! لكن أيضا خطر لي سؤال أن بناء على ماذا افترض أن هذا الشكل الأولي للدين؟ ثم كيف لشيء شاذ محدود الانتشار أن يكون منطلقا لملاحظات كونية؟
وهكذا كثير من المقدمات التي بنيت عليها النتائج والتي يعتمد عليها الدارس كمسلمات ليبني عليها، تجدها تحتاج إلى برهان أصلا…
وكلما ولدت نظرية نقدتها غيرها، والكتاب يلف بك بينها برشاقة… من الاحتفاء بتراجع تأثير الدين في المجتمع المدروس والعمل على نزع القداسة عند البعض، إلى الحزن على اختفاء القيم عند آخرين أوالحنين إلى “الإله الخفي” المشكوك به… إلى التنقيب عن قيم بديلة بدل التي تمد بها المسيحية عند أخر ومحاولة إنشاء دين وضعي…
ومن التراجع عن الدين العقدي المؤسسي وفقدان الشعور الموحد الكلي إلى الذاتية والفردانية المتصوفة…
ومن مقاربة فهم الدين في إحصاء مرتادي الكنائس الكاثوليك في فرنسا عند أحدهم إلى البحث عنه في الطقوس السحرية السرية الغرائبية القبائلية عند آخر…
ومن معتبر البروتستانتية محركا للعمل، لآخر اعتبرها مثبطا للتغيير، وثالث انصب اهتمامه على الحركات الثورية المسيحية كمعيار بينما تجاهلها آخر في وسمه للمسيحية بالتخدير، ورابع يرى أن الحركات الاحتجاجية الشاذة اليتوبية _من اليتوبيا_ الحالمة بنهاية العالم هي الشكل الأمثل لدراسته…
ومن إلحاد مادي يريد التنوير ونزع “الهالة السحرية” عن العالم إلى إلحاد متدين يضاد الأول ويعتبر نزعه نزعا رديئا وتنويرا زائفا لأنه يقتل كنوز الأمل والطاقة الدافعة في الدين!
قد بدا لي أن هذه النظريات تصلح لأن تكون مصدرا لدراسة اجتماعية لمجتمع الدارس (الأوربي غالبا) وفهمه لتاريخه وتطلعاته لمستقبل أمته أكثر من اعتبارها دراسات لظاهرة الدين بمعناها الكوني الشامل… بمعنى آخر هي أقرب لتكون دراسات في تراجع تأثير المسيحية في أوروبا وكيفية تحول المسيحية إلى دين أرضي وتغلغل الدهرنة إليها… _ الدهرنة بمعنى انفصال الدين عن المجتمع_… ومعرفة كيف نُزعت القداسة من المسيحية وأُنزلت على أشياء أخر…
(إن يسوعا بوصفه ابن الإنسان قد حل بصفة مسيحانية في من كان قبله يحمل اسم الله. وبالنتيجة “يصير بالإمكان القول: ’وحده الملحد من يستطيع أن يكون مسيحيا خالصا، وبالعكس، وحده المسيحي يمكنه أن يكون ملحدا جيدا’”) ج2/ص84.
أما الإسلام فهو غائب عن الدراسات بشكل شبه كلي، وكان ذلك من ضمن بعض الانتقادات الموجهة أيضا…
الأمر الذي فكرت به بعد كل هذا، هو تخيل كمية الإشكالات وسوء الفهم والإغراب وزيف النتائج التي قد يستنتجها الدارس من بني قومنا وهو يحاول تفسير دور الدين الإسلامي في مجتمعاتنا مستعيرا إحدى تلك النظريات التي نشأت من سياق مجتمعي آخر وبنية دينية مختلفة… وكأنها حجاب حاجز… وكم سيكون فارقا عن نتائج دارس آخر من بني جلدتنا منطلقا من سياق ديننا الإسلامي وثقافتنا ومجتمعنا… ولست مطلعة على الكتابات في هذا المجال لأي الفريقين… لكن أتمنى أن يكون هناك كثر من النموذج الثاني…
وإنه لا فكاك من الدين، فهو جزء من طبيعة البشري، وليس مبالغة قول من قال أنه “حيوان متدين”، فما يخرج من دين إلا وهو متخلق بآخر وما ينزع قداسة إلا ليلبسها شيئا آخر:
(إنها لسخرية إضافية من التاريخ أن ندرك أن هذه الإيدولوجيا التي كانت تتهم الدين بوصفه “أفيون الشعوب” إنما كانت بسبب طابعها ذاته، النبوئي والألفي، قد أثرت في تاريخ البشر، خيرا وشرا) ج1/ص50 _الألفي من الألفية وهي رؤية دينية يهودية تعتقد بأن مسيحهم القادم سيحكم العالم ألف عام_…
(إن عصرنا هذا يحملنا على أن نؤكد بقوة محدودية هذا الإلغاء العقلاني للهالة السحرية، ومخاطره وما يثيره من صدمات ممكنة، وعلى أن نحصي تكاثر الإيمان والصيغ الجديدة في تشكل الجماعات الدينية التي يؤدي انبثاقها الوضع المتقلب للمجتمعات التي ولجت مرحلة ما بعد الحداثة. وعصرنا هذا يدعو إلى تحديد الأشكال المستجدة في تجربة المقدس الجماعية التي لم يلغها انفكاكها عن الدين المُمأسس، والتي تظهر من جديد في صيغ أخرى) ج1/ص13
الكتاب جميل حقيقة أسلوبا وترجمة… وجدير بالقراءة…
وخير ما أختم به كلامي بعد هذا الرحلة مع الكتاب هو قول طه عبد الرحمن في كتابه تجديد المنهج في تقويم التراث:
(فليس يغيب عن حصافة رجل “فقه العلم” أن الأجهزة النظرية التي نصطنعها للوصف أو التحليل أو التفسير ليست إلا حيلا أو قل “ألعابا” نبتدعها ابتداعا لنلاحق ونقارب بها الظاهرة المدروسة، حتى يقوى سلطاننا عليها؛ ومهما بلغت من الكفاية الوصفية والتفسيرية، فإن هذه الأجهزة تظل غير مشاركة في وجود هذه الظاهرة ذاته، إذ يبقى دائما في الإمكان أن نستبدل مكانها أجهزة أخرى لا تقل عنها إنتاجية إن لم تفقها، من غير ادعاء الاشتراك مع الظاهرة في الوجود ألبتة.) ص50
—–
سوسيولوجيا الدين (مقاربات كلاسيكية – مقاربات منشقة)
لمجموعة من المؤلفين الفرنسيين
ترجمة: يوسف طاهر الصديق
نشر هيئة البحرية للثقافة والتراث، ط1 – 2018
سلمى
صفر 1442
تشرين الأول 2020