في عام 1933 توجهت الليدي إيفلين كبولود (أو السيدة زينب كما سمت نفسها) لأداء مناسك الحج، وقد دونت تفاصيل زيارتها في كتاب ونشرته عام 1934…
ولدت الليدي عام 1867 لعائلة استقراطية اسكتلندية ثرية، وأمضت شطرا من طفولتها في البلاد العربية فقد كان والدها محبا للشرق كثير السفر والإقامة فيه، فورثت منه حب الشرق وتعلمت اللغة العربية وتعرفت على الإسلام وأحبته… هذه كانت البدايات في طفولتها، والتي دُفنت تحت مسؤوليات الحياة حين شبت، فنسيت العربية والإسلام… ثم حصل بعد سنوات كثيرة وبعد تقدم العمر بها أن زارت روما، وأتيح لها زيارة البابا، وفي أثناء الزيارة سألها البابا: هل أنت كاثوليكية؟ فاجأها السؤال، فأطرقت لوهلة ثم أجابت: أنا مسلمة… جوابها الذي خرج عفو الخاطر منها جعلها تنتبه للإسلام الذي لم تفكر به لسنوات، وأنها كانت مسلمة في داخلها… و هذه كانت بداية الشرارة التي جعلتها تعود لدراسة الإسلام أكثر، وبالتالي تعتنقه على أنه الدين الحق، وأنه الدين الذي يمكن أن يحل الكثير من إشكالات هذا العالم المعقدة… لذلك حين كانت تُسأل كيف أصبحت مسلمة، كانت تجيب بأنها لا تدري الكيفية، إذ يبدو لها أنها كانت مسلمة طوال عمرها… فالإسلام دين الفطرة…
هذه الكليمات هي ما ابتدأت به حديثها عن رحلتها…
الرحلة فريدة من نوعها إذ كانت أول بريطانية مسلمة تؤدي مناسك الحج، وهذا جعلها تحدثنا عن تفاصيل غير معتادة في مثل هذه الرحلات، كتفاصيل الحياة داخل البيوت وتصميمها وكيفية الأدوات المستخدمة وروتين الحياة والنزهات وبعض العادات، بالإضافة إلى ذكر تفاصيل حياة النسوة وكيف يزجين أوقاتهن وإتيكيت الزيارات… ولم تخف امتعاضها من بعض الأمور كالنرجيلة التي أحضرتها إحدى الحاجّات اللاتي رافقنها إلى منى!!! رغم منع السلطات للنرجيلة… كما حدثتنا أيضا عن آلية الحج وشكل الحرم والمصلين كما استغلت الفرصة لزيارة أكبر قدر من الأماكن التي وردت في السيرة النبوية، حتى أنها تسلقت الجبل الذي فيه غار حراء رغم سنواتها الخمس والستين… وقد كانت أيضا أول من حج بالسيارة كما أخبرتنا _ويبدو طربها بفكرة الأولية التي مثّلها حجها_… وكان يرافقها سائق ومرافق لحمايتها، كما استعانت بالمطوف ليدلها على أركان الحج… ومن اللطيف معرفة أن اللقاح كان إلزاميا قبل الذهاب للحج، والحجر الصحي بعده كذلك… كما تحدثت أيضا عن التغييرات في الدولة السعودية الناشئة…
وتخلل وصف الرحلة، مشاعرها المنفعلة بالأجواء الروحانية… بالإضافة إلى تعريف بالإسلام وتاريخه وشعائره وتصحيح كثير من التصورات المشوهة عنه التي تنتشر عند الغربيين… وقد ساعدها بكتابة هذه المقاطع بعض أصدقائها من المسلمين الذين كثيرا ما تناقشت معهم وتعلمت منهم…
الوصف في الكتاب كان ممزوجا بين الغرائبية المتفرجة على الشرق، وبين الروحانية المندمجة في عالم الإسلام… ولذلك أتت الرحلة على هذه الشاكلة الفريدة، ما بين رحلة وجدانية لحاجة تجدد إيمانها، ورحلة معرفية لمسلمة تشرح عن الإسلام، ورحلة مغامرات لغربية في بلاد المشرق…
كانت الليدي تملك روحا حرة جامحة مفعمة بالنشاط، أحبت السفر إلى الشرق والقيام برحلاتها الخاصة… مثل حبها للتجول في سهوب إقطاعيتها في اسكتلندا، وممارسة هوايتها المفضلة في صيد الغزلان!! قامت بالحج وهي في الخامسة والستين، وبعدها بعامين قامت برحلة إلى كينيا وكتبت عنها، مثلما سبق وكتبت قبل حجها عن رحلتها لصحراء الجزائر… وفي السبعين من عمرها زارت المغرب… وقد عمرت طويلا حتى تجاوزت التسعين… ثم توفت عام 1963 وكانت قد أوصت أن تدفن برأس هضبة بسهول اقطاعيتها في اسكتلندا بالقرب من مكان تتجمع فيه الغزلان لتمر بقبرها… وأوصت أن يُصلى عليها بالعربية وتدفن ورأسها متوجه للكعبة وأن يرافق جنازتها عازف المزمار الاسكتلندي التقليدي، وأن ينقش على شاهدة قبرها باللغة العربية قوله تعالى “الله نور السموات والأرض”… ولأنها توفيت في عام شديد البرودة انقطعت فيه الطرقات وأوصت بدفنها في تلك المنطقة النائية المتجلدة، في مكان لا مسلمين فيه، فقد كان إحضار شيخ من لندن ليصلي الجنازة مغامرة أخرى… وكأن موتها مغامرة أخرى لا تختلف عن حياتها برمتها…
النسخة المحققة من الكتاب ابتُدئت بمقدمة طويلة غنية وممتعة لويليم فيسي وميرندا تايلور يتتبعان فيها سيرة حياة الليدي من بدايتها إلى نهايتها، مع ردود أفعال الصحف على رحلتها في تلك الفترة، وأعمالها الأخرى… بالإضافة إلى لمحة تاريخية عن أوائل المسلمين في بريطانيا، مع ذكر محاولات التقصي عن كونها أول بريطانية تقوم برحلة الحج كما ادعت… ومع أن هناك ذكر بشكل غير واضح لبعض النسوة الغربيات قمن بالحج في بعض الكتب، لكن الأكيد أنها أول امرأة بريطانية مسجلة قد قامت بالحج وأول من دوّن رحلتها منهن…
هذه المقدمة لا تقل متعة عن الرحلة إن لم تزد عليها، ويمكن أن تكون كتابا مستقلا بحد ذاته… فمن خلالها تعرفت على شخصية هذه السيدة الفريدة… وقد بذل المحققان جهدا في تجميع قطع حياتها من أقاربها وما سمعوه من آباءهم عنها، وقصاصات ذكرياتها التي ما زالوا يحتفظون بها وصورها ورسائلها، بالإضافة إلى الرسائل المؤرشفة للشخصيات الشهيرة التي راسلتهم شرقا وغربا ومذكراتهم، والصحف العتيقة والدوريات الإسلامية فترتها… جهد بحثي مثير للإعجاب… بالإضافة إلى ملاحظات شارحة للقارئ الغربي عن التفاصيل الإسلامية من قبل الأستاذ السعودي أحمد تركستاني…
كتاب فريد جدير بالقراءة وبأن تنتبه له دور النشر فتترجمه…
وسبحان الله، فما كان ينقضي عجبي من المفارقة بين حياة هذه السيدة المفعمة وحياتي الساكنة، واشتباكها مع الدنيا واحجامي عنها، وعشقها للمغامرات وفراري منها، وانفتاحها على الناس وانغلاقي عنهم… وكيف خلق الله البشر متنوعين حد التضاد… ما بين الريح العاصفة والجبل الثابت، مابين الغزال الجامح البري والسلحفاة المتقوقعة والبرية أيضا على أية حال… وأنا أمسك بسيرة حياتها في غرفتي وأبتسم في نفسي كلما مر بخاطري حقيقة اعتبار حياتي الساكنة هذه أكثر متعة من حياتها المتحركة… فبذهني كلما تخففت من ضجيج الخارج ازدهر الداخل… وأن ملاحقتي للأفكار وأنا أتأمل من نافذتي أحب إلي من ملاحقة الغزلان في السهوب والقفار… رحم الله الليدي إيفيلين (زينب خانم) وتجاوز عنها…
وأختم بشكر صديقتيّ الجميلتين ابتسام خانم التي أهدتني الكتاب، ووفاء خانم التي شجعتني على الكتابة عنه…
وفي ما يلي بعض الصور من الكتاب… ثم مقطع فيديو لمجموعة زارت قبرها…
وأختم بهذا المقطع لمجموعة من الأشخاص زارت قبرها
رحلة إلى الحج Pilgrimage to Mecca
لمؤلفته البريطانية: الليدي إيفلين كوبولد (الحاجة زينب)
تقديم: وليم فاسي – ميريندا تايلور
تعليقات: أحمد تركستاني
طبعة 2009 لندن
عيد الأضحى 1441
آب 2020
سلمى