

[وقف أعرابيٌ على مجلس الأخفش فسمع كلام أهله في النحو وما يدخل معه، فحار وعجب، وأطرق ووسوس، فقال له الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب؟ قال: أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا.]
ما أجد في لغتي عبارات تصف ما غمرني به هذا الكتاب (التفكير اللساني في الحضارة العربية) وما داخلني من المعاني… كلما كنت أقرأ مبحثا وأغلق الكتاب أجدني بحاجة لبرهة أستعيد فيها تشخصي في الزمان والمكان، وكأنه ثقب أسود من التجريد البديع سحبني خارجهما… وأنى لي البيان عن ذاك الفيض الذي ملأ نفسي ورفعني إلى عوالم سماوية بعيدة…. إلى ما وراء اللغة…
الكتاب محاولة استقصاء المؤلف لأنظار بعض من علماء المسلمين في ماهية اللغة، فالتفكير اللساني هو التفكير في اللغة من حيث كونها لغة… فما هي اللغة، وما كان قبل اللغة، وما الذي تعلمه آدم أهي الاصطلاحات أم هو الوضع وقابلية الاشتقاق… وكيف تنشأ اللغة، وكيف تتطور وتتشعب… وما الذي يجعل اللغة لغة، وما علاقة الكلام بالفكر، وكيف ترتبط المعاني بالكلمات، وهل من منطق فيها أم هي على الاعتباط، وما علاقة الكلام بالمتكلم عنه أو المتكلم إليه، وما مقومات الكلام وارتباطه بالزمان والمكان، وكيف ارتباط الضرورة بالكلام فلا خيار للإنسان في طرح الكلام بعد تلفظه ولا تخلصه من قدرته عليه بعد اكتسابه… وماذا عن شمول الكلام حتى يسع نفسه ويصير موضوعه ذاته، ويُتكلم عن الكلام بالكلام، فيصير الدال والمدلول والمرجع واحد، وتعبر اللغة إلى ما وراءها بها… بل ليس إلا اللغة من تستطيع الكشف عن طبقات الوعي البشري:
[فباللغة نتحدث عن الأشياء وباللغة نتحدث عن اللغة _وتلك هي وظيفة ما وراء اللغة_ ولكننا باللغة أيضا نتحدث عن حديثنا عن اللغة، بل إننا باللغة _بعد هذا وذاك_ نتحدث عن علاقة الفكر إذ يفكر باللغة من حيث هي تقول ما تقول].
الكتاب قد اقترب من الكمال لولا شيء من تكلف في الأسلوب لم يرق لي… بل وجدت عبارة الأقدمين أجزل… لكني تفهمت أسلوبه فقد كان المؤلف عبد السلام المسدي من رواد من اقتحم غمار هذه المواضيع وقد كتبه في السبعينات، وهو يخبرنا في مقدمته الجديدة عن الجو الأكاديمي الذي تخلّق فيه كتابه، وكيف كان علو الكعب حينها للأفكار الاستشراقية الكلاسيكية، مع بدايات استقلال الجامعة التونسية في منح درجة الدكتوراة بعيدا عن السوربون، أقول وربما لأجل هذا احتاج لشيء من تقعر العبارة كسلاح يثبت به قدميه عند المتشككين…
كما لاحظت أنه في مواضع يميل إلى استخلاص بعض الأفكار التي يريدها من مقولات مجموع العلماء على اختلاف مذاهبهم ليدلل على تصور مسبق عنده يتحدث عن سبقهم فيما استجد، أكثر من الإنصات لما قالوه ومحاولة تصنيفه ضمن مدارس أو مناهج لإعطاء نتائج أدق عن أفكارهم والفروق بينها ثم مقارنتها بما استجد… وأسعدني أني وجدت ما لحظته صحيحا حين قرأته بكلمات أصوب عبرت عما عنيته في كتاب (تقويم الفكر النحوي عند اللسانيين العرب) لسلمان عباس عيد، يقول:
[غير أننا نلاحظ أن أغلب هذه الدراسات كانت أسيرة لمعركة “الوصفية والمعيارية” فلم تستطع التخلص من شبح هذه القضية، وهذا يرجع في غالب الأحيان إلى التحمس، تحمس البحث في تبيان عصرية الدرس النحوي العربي وتقدمه، فهو قد عالج قبل ألف سنة ما تعالجه المناهج الحديثة اليوم. غير أن فائدة هذا التحمس _في البحث العلمي_ ليست كبيرة. بل إنه قد يقع في مزالق من التعميمات غير الدقيقة، مما يبعده عن موضوعية البحث العلمي ورصانته].
وجدير بالذكر أن ما دلني عليه هو كتاب قرأته قبلا، كتاب عماد الزبن المتأخر عنه زمانا وهو (التفكير اللساني عند علماء العقليات المسلمين)، والمقدم عندي اختيارا، رغم أنه أصعب وأكثر تجريدا، ولكن أسلوبه أكثر مباشرة ومدرسية، وأضبط منهجا، ويعطي تصورا أدق لأفكار العلماء المختارين بالدراسة… مما جعل عقلي يقارن بين الكتابين…
لكن هذه ملاحظات ثانوية على هامش قراءتي الكتاب جاءت عفو الخاطر… فما قرأته أصلا لأغراض بحثية لأتوسع في الحديث عن منهجه ونتائجه وأقارنه بغيره، إنما قرأته لأجل التفكر في اللغة مع أجدادي، لأعيش هذه الحالة من التواجد الروحي معهم… لأتذوق هذا الإرباك الذي حير عقولهم… حتى أكاد أسمع أزيز اهترائها وهي تبلغ أقصاها في محاولة الإمساك بجواب… فأرفع رأسي وألتقط أنفاسي، وقول الله تعالى لا يفارقني {خَلَقَ الْإِنسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}… فأدخل وأخرج، ثم أدخل فأخرج… فأدخل في تفاصيل متشابكة منهكة وأسئلة لا نهاية لها، ثم أخرج فأرى قدرة الله من الأعلى تجلل المشهد…
فكيف عُلّمنا البيان وما علمناه… وكيف نقبض به المعاني ولا نقبض معناه… وكيف نصل به ولا نصل إليه… وكيف نبين به ولا نتبينه…
إنما هو كتاب يجلو القلب وتلذ به النفس ويستراح به من ثقل الوجود… وما حركني للحديث عنه بعد طول انقطاع عن الكتابة إلا اعتذارٌ له، إذ قد حصل وضاق صدري ولم ينطلق لساني حين أردت الحديث عن موضوعه أمام أهلي… فأخفقت وبهتُّ صورته، فكرهوا موضوعه واستتفهوه… وبقيت أياما حزينة لأن عياء لساني ظلمه ظلما بينا… وكل تلك المعاني التي غمرتني انحسرت بثوان، فصدقت فيّ عبارة الجرجاني:
[لن تتسع المعاني حتى تتسع الألفاظ.]
ولذلك أقول لسائلي ما وجدت
في القراءة عن هذا كله وما جدواه؟
أقول أني في كل مرة أجد الله… وهو الذي امتن علينا بتعليمه الإنسان البيان… وهو
ما باهى به أمام ملائكته في مبتدئ خلقنا… وما امتن ولا باهى إلا بما هو عظيم
يليق بعظمته…
وإن لم يكن النظر في هذا كله عبادة، فمه؟
سبحان الله العليم المعلم العلام
—–
التفكير اللساني في الحضارة العربية
لمؤلفه التونسي: عبد السلام المسدي
دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط3 / 2009
رمضان 1441 – أيار 2020
سلمى