1- في موسوعة القرآن الإنكليزية لبريل هناك مبحث صغير عن الألوان في القرآن الكريم، ورغم بساطة المعالجة إلا أنه أعجبتني فكرة تخصيص موضوع عن الألوان، فأنا أعشق الألوان ولم يسبق أن قرأت عن موضوع الألوان في القرآن، إلا أن المبحث كان صغيرا وتعريفيا وغير كاف… والموسوعة عموما تعريفية وما يروق لي فيها أنها تلفت نظري لبعض الزوايا غير المعتادة في المواضيع القرآنية بما أن الدارس فيها خارجي فمعظم المؤلفين باحثين غربيين غير مسلمين أو يكتبون بمعايير الأكاديميا الغربية، والتي قد لا ينتبه لها قارئ من الداخل… وهذا يعني أيضا أن الموسوعة مليئة بالمجانية في التخرصات والتخمينات والعجائب في كثير من أبحاثها ومن دون أن يتعب الباحث نفسه في ذكر أي مستند سوى خياله الخصب… فمثلا في مبحث الأحرف المقطعة ذكر الباحث احتمال أنها اختصار لأحرف أسماء كتبة القرآن! هكذا بكل بساطة تُسقَط تقاليد كتابية غربية على القرآن من دون أن يرف للباحث جفن أو يقلق بضرورة تلفيق ولو شبه دليل على أن العرب الأوائل كان لديهم مثل هذا التقليد الذي يعايشه في ثقافته، إذ منذا الذي سيتابع عليه! والحقيقة أن الأبحاث ليست كلها على سوية واحدة ولا حتى اتجاه واحد في طريقة المعالجة للمواضيع، فبينما يبحث بعضها في فكرة الموضوع نفسه بموضوعية، يبحث كثير آخر كالعادة عن أي مصدر غير إسلامي لأي فكرة إسلامية إذ لا شيء أصيل يأتي به المسلمون! وكما يعتمد بعض تلك الدراسات على المصادر الإسلامية ليبني فكرته، يشك كثير آخر بهذه المصادر مستعيضا عنها بالتخمينات والكليشهات الكلاسيكية الاستشراقية… وهذه الملاحظة يوافقني عليه جوزيف لمبارد حين تحدث في مقالته المهمة والتي أنصح الجميع بقراءتها (تفكيك الاستعمار في الدراسات القرآنية) عن هذه الموسوعة وضربها كمثال للتحيز المعرفي الغربي حيث كثيرا ما تتجاهل العديد من المقالات فيها المصادر الأصلية الإسلامية والمراجع الثانوية، متجاوزة إياها إلى مصادر وأقوال علماء أوربية وأمريكية… وقد نشر هذه المقالة مترجمة مركز تفسير مع تعليقات ممتازة عليها من قبل الباحثين في مركز تفسير…
2- والحقيقة أني معجبة جدا بالمقالات المثرية التي ينشرها مركز تفسير تباعا، سواء المترجمة منها التي تهتم بالدراسات القرآنية الغربية أو سلسلة مناقشة القراءات الحداثية التي يقدمها طارق حجي، وهي مقالات غنية ومن أفضل ما قرأت… ولأجل هذا بحثت عن موضوع (اللون) في موسوعة التفسير الموضوعي التي صدرت حديثا عنه وأتاحها المركز كاملة عبر إنشاء موقع الكتروني خاص لها يمكنك البحث فيه عن الموضوع الذي تريده، ولكني للأسف لم أجد الألوان من ضمن المواضيع… أتمنى أن يضيفوه لاحقا… وعلى أية حال فأنا متفائلة بموسوعة التفسير الموضوعي هذه بعد أن قرأت مادتها الأولى وأعجبتني كثيرا…
3- من هواياتي القليلة تلوين كتبي كنوع من التحبب إليها وشكرها عبر تزيينها، ومن ثم فإن رؤيتها ملونة تدخل البهجة لقلبي، وكلما كانت الدراسة جادة جافة فتلوينها بكثير من الألوان الزاهية يصير آكد، ولذلك أحببت كثيرا ما ذكره المؤرخ الفلسطيني طريف الخالدي في كتابه الصغير الجميل عن ذكرياته مع الكتب (أنا والكتب) حين أغلقت الجامعة أبوابها بسبب الحرب الأهلية في لبنان، فمكث في منزله يجلد كتبه المهترئة ويزينها بقماش الملابس العتيقة، معتبرا إياها هواية تليق بكل محبي الكتب والذين سيأسفون لرؤيتها تحتضر.
ولكل قارئ أسلوبه في تدليله لكتبه… وهي أساليب مناسبة لتخفيف التوتر والبقاء بالقرب من الكتب في حالات العجز عن القراءة أو الفهم التي كثيرا ما تنتاب واحدنا بسبب صروف الزمان… والحمد لله على كل حال ما كان…
4- ليست كل الكتب سواسية في تلوينها لا ورقا ولا تصميما ولا موضوعا… وهذا أمر لو تعلمون عظيم! فبعضها ثقيل على النفس، وبعضها مصدر بهجة كبيرة… فمن الكتب التي استمتعت بقراءتها وتلوينها كتاب أسماء سيد (المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام)، والذي كنت نقلت اقتباسات مطولة منه عن (راويات الحديث غيبة وحضورا) وعن (المدرسة النورية) تعويضا عن تقاعسي في الكتابة عنه… فبالإضافة إلى موضوعه الذي أحببته جدا، _إذ لا يمكنك أن تستمتع بتلوين كتاب كرهت موضوعه_ هناك نوعية الورق التي جعلت الألوان الخشبية تنساب بسهولة عليه وتبدو زاهية مع أنه ليس نوعي المفضل من الورق، وتصميمه الداخلي الذي كان له دور كبير في متعة تلوينه… واللافت أن دار النشر (دار مدارات) قد كتبت اسم المخرج الفني الداخلي للكتاب، وهو أمر راق لي فنادرا ما تذكر دور النشر أسماء مصمميها، وهكذا صار بإمكاني شكره بالاسم… فشكرا للسيد محمد عبد الرؤوف على تصميم الكتاب الجميل… إذ بعض الكتب تصميمها لا يعين على تلوينها فتراها تنساب كصبة واحدة فتحتار كيف تلونها، مثل كتاب (كتاب الحكمة العربية) لخالد الشيخ، إذ بقدر تلون وتنوع مادته ونوعية ورقه الممتاز الذي أحبه، إلا أن عرض الموضوع كصبة واحدة جعلني أحتار كيف ألونه، فلم يبدُ زاهيا ومزركشا بما يتناسب مع زهو موضوعه، ولا استمتعت بتلوينه بقدر ما استمتعت بقراءته…
وهنا فكرة أخرى، فبعض الكتب موضوعها مؤلم، رغم أنها كانت ممتعة قراءة وتلوينا، وبالتالي لا تدري كيف تشعر حيال تجربتك معها، مثل كتاب (موقف العلماء المسلمين في العراق وبلاد الشام من الغزو المغولي) لـ خميس بن علي الرواحي، إذ الدراسة جيدة، وإخراج الكتاب وورقه الممتاز جعل تجربة التلوين متعة كبيرة، إلا أن الكتاب مقبض ومليء بالحوادث التاريخية المفجعة التي نزلت بعلماء الأمة… ولهذا تختلط مشاعري حياله كلما تصفحت صفحاته الملونة…
ولأجل كل ما سبق فإن الكتاب الالكتروني يبدو مسكينا، فمع كل ميزاته التي غيرت وجه القراءة في التاريخ وحققت الكثير من أمنياتنا القرائية المتعذرة وكان أنيسنا الخفيف في تنقالاتنا والمشفق على مدخراتنا الهزيلة والزاهد في احتلال أماكننا الضيقة، إلا أن حواسنا لا تستطيع أن تعيش معه أي تجربة خارج قراءته…
5- في مقطع ياباني عاليوتيوب يرينا مصبغة ما زالت تتبع الأساليب القديمة في استخراج الألوان الطبيعية والصبغ بها وهو أمر بات نادرا لصعوبته وشح نتاجه، ولكنهم ما زالوا يتبعونها لأجل طقوسهم الدينية. إن صبغ ورقة واحدة (تقريبا بحجم ورقتين A4) باللون الأحمر القاني يحتاج لكيلو ونصف من العصفر الجاف، ليصنعوا منها ورودا ورقية يضعوها في المعبد في احتفالهم، كما أن استخراج اللون الأحمر القاني من العصفر يحتاج لجهد ووقت طويلين مع إضافة بعض المواد…
6- ورد حديث عن رسول الله نهى فيه عن لبس الثوب المعصفر للرجال، وقد اختلف العلماء حول معناه مابين الجواز والكراهة أو التحريم، بسبب اختلافهم في علة النهي، لكونه من زينة النساء، أو لباس الكفار كما ورد في أحد الروايات فلا يتشبه بهم… ومعظمهم دار كلامه على أن الحديث مقصود به المصبوغ بالعصفر تحديدا وليس اللون الأحمر عموما… وأغلب العلماء ذهبوا إلى الجواز أو الكراهة، بعد عرضه على أحاديث أخرى…
7- وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لون ثياب سيدنا عيسى عليه السلام حين ينزل في آخر الزمان، يقول: “ليس بَيني وبينه نَبِيٌّ – يعنى عيسى – وإنَّه نازلٌ، فإذا رأَيْتُموه فاعْرِفوه: رجُلٌ مربوعٌ، إلى الحُمْرةِ والبَيَاضِ، بين ممصَّرتَيْنِ، كأنَّ رأسَهُ يقطُرُ، وإنْ لم يُصِبْهُ بَلَلٌ…”
إلى الحمرة والبياض: أي لون بشرته
ممصّرتين أي ثوبين ممصّرين: والممصّر قيل المصبوغ بحمرة خفيفة بنبات العشرق، وقيل الذي صفرته ليست بالكثيرة… وقيل غير ذلك…
وفي رواية أخرى مهرودتين أي حلتين مهرودتين: والمهرودة قيل المصبوغة أصفر بالهرد وهو الكركم… وقيل غير ذلك…
ومع الكلمتين يمكننا حصر اللون بكونه أصفرا خفيفا…
8- إن جهل واحدنا بمصادر الألوان الطبيعية وكيف كانت تستخرج يجعل تصورنا لهذه الأوصاف ناقصا أو غير متذوق لها بسهولة… وحسب ما فهمته من الصباغ الياباني ذاك، أنه يمكن استخراج درجات لونية متعددة من نبات ما… مما يعني أن هناك مسافة _كبرت أو صغرت_ لتصورنا الوصف باللون، وتصورنا الوصف باسم المادة المصبوغ بها…
9- في الكتاب الممتع لـ غاي دويتشر (عبر منظار اللغة، لم يبدو العالم مختلفا بلغات أخرى؟)، هناك أكثر من مبحث طريف عن العلاقة بين اللغة والألوان وعن سوء فهم اللاحقين للسابقين… فمثلا عدم فهم تشبيه ورد في قصيدة لهوميروس يشبّه فيه لون البحر بالنبيذ المظلم، أو مثلا انعدام وجود اسم للون الأزرق مستقل عن الأخضر في بعض اللغات، جعل بعض العلماء الغربيين في القرن التاسع عشر يظنون أن القدرة على الإحساس بتدرجات الألوان لم يتطور إلا في تاريخ متأخر، وأنهم قبل عصور سابقة أو في بيئات أخرى يرون الألوان بشكل أقل حساسية… هذا التفسير الذي يرد المشكلة إلى الإدراك والخصائص البيولوجية والجينات _والمطبوع بميسم الشعور بتفوق الروح الغربية الاستعمارية حينها_ بات مضحكا فيما بعد… فتلك المركزية كانت تحجبهم عن الانتباه لأثر اختلاف اللغة والثقافة في طرق التعبير عن الألوان، وطرق الإحساس بها لدلالاتها حسب البيئة وكيفية حضورها فيها ومقدارها، وبالتالي ما تحمله اللغة من تخصيص اسم لها أو إدراجها في اسم آخر…
10- أظننا بحاجة ماسة لوثائقي يرينا الأصباغ عند العرب كيف كانت لينقذنا من جهلنا اللوني اللغوي اليعربي ويجعلنا نراها كما رآها الأقدمون…
11- تنقل حنان مطاوع في بحثها (الألوان ودلالتها في الحضارة الإسلامية) عن نذير حمدان في كتابه (الضوء واللون في القرآن الكريم): قوله “يلاحظ أن الألوان وردت بالقرآن الكريم بالجمع أكثر من الإفراد، ربما يرجع إلى أن الحياة تقوم على تنوع الألوان التي تحقق الجمال والثقة فليس من الجمال في شيء أن تبدو الحياة بلون واحد أو بدون ألوان”.
أحببت هذه الملاحظة جدا، فأنا أعشق الألوان مجتمعة معا وليس إفراد لون بعينه، إذ لا تتمايز الألوان فيما بينها وتنبض بالحياة إلا إذا اجتمعت معا… اجتماعا مبعثرا يتوه فيها النظر… وأحيانا هادئا مرتبا كألوان الطيف…
وآخر كلامي أن الحمد لله الذي تفضل علينا ببث الألوان في حياتنا وجعلها مسرة للناظرين…
محرم 1441
أيلول 2019
سلمى