الهدهد والرازي ومخالطة الأضداد!

الهدهد؛ رسمة من القرن 17 أو 18 من مخطوطة فارسية لكتاب عجائب الدهر في البر والبحر

حين تفقدت أمي الهدهد البارحة لم تره، فقد اعتادت أن تراه قرب السوق كلما ذهبنا لشراء حاجيات المنزل مشيرة إليه متذكرة سيرة جده مع سيدنا سليمان عليه السلام، وكادت أن تعتبر الزيارة ناقصة لولا أن ظهر فجأة بعد أن أنهت جملتها في السؤال عنه، وكأن قدر الهداهد مذ تفقد سيدنا سليمان هدهده أن تُتفقد من بعده!
والحقيقة كلما تذكرت الهدهد السليماني والآيات، تذكرت إسهابا طريفا للفخر الرازي في تفسيره في معنى قول سيدنا سليمان للهدهد متوعدا {لأعذبنه} حيث يقول الرازي:

“ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: لَأُعَذِّبَنَّهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّهُ نَتْفُ الرِّيشِ وَالْإِلْقَاءُ فِي الشَّمْسِ، وَقِيلَ أَنْ يُطْلَى بِالْقَطِرَانِ وَيُشَمَّسُ، وَقِيلَ أَنْ يُلْقَى لِلنَّمْلِ فَتَأْكُلُهُ، وَقِيلَ إِيدَاعُهُ الْقَفَصَ، وَقِيلَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلْفِهِ، وَقِيلَ لَأُلْزِمَنَّهُ صُحْبَةَ الْأَضْدَادِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَضْيَقُ السُّجُونِ مُعَاشَرَةُ الْأَضْدَادِ، وَقِيلَ لَأُلْزِمَنَّهُ خِدْمَةَ أَقْرَانِهِ.”

والحقيقة أنه من الملفت الطريف كيف خطر له من بين أنواع العذاب إجباره على خدمة أقرانه أو صحبة ضده، وهي عقوبة أبعد ما تخطر لتعذيب هدهد، إذ تبدو أنسب لتعذيب بشري بها، وقد كانت جدتي تقول مثلا في هذا الباب كما روت أمي عنها: (حياة الفهيم مع البهيم داء سقيم)…
لكنما طرافة الجملة لا تثير العجب بقدر ما تثير التعاطف أيضا! فليست هي المرة الأولى التي يلمح الرازي فيها لهذا النوع من الابتلاء، وهو أن يبتلى العالم بالجاهل أو الذكي بالغبي، أو ابتلاء مقارنة المفارقة بينهما! مما يجعلك تشعر وكأن الرجل كان يكابد شيئا كهذا وكان يصبر نفسه بين فينة وأخرى بتذكر الحكمة من ابتلاءات الدنيا… وهو أمر قريب التصور نظرا لعبقرية الرجل وحدة ذهنه اللامعتادة…
فمثلا يقول عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ}:

“اعْلَمْ أَنَّ هَذَا اعْتِبَارُ حَالٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ أَنَّا نَرَى أَكْيَسَ النَّاسِ وَأَكْثَرَهُمْ عَقْلًا وَفَهْمًا يُفْنِي عُمُرَهُ فِي طَلَبِ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ مِنَ الدُّنْيَا وَلَا يَتَيَسَّرُ لَهُ ذَلِكَ، وَنَرَى أَجْهَلَ الْخَلْقِ وَأَقَلَّهُمْ عَقْلًا وَفَهْمًا تنفتح عليه أَبْوَابُ الدُّنْيَا، وَكُلُّ شَيْءٍ خَطَرَ بِبَالِهِ وَدَارَ فِي خَيَالِهِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ فِي الْحَالِ، وَلَوْ كَانَ السَّبَبُ جَهْدَ الْإِنْسَانِ وَعَقْلَهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَعْقَلُ أَفْضَلَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَلَمَّا رَأَيْنَا أَنَّ الْأَعْقَلَ أَقَلُّ نَصِيبًا، وَأَنَّ الْأَجْهَلَ الْأَخَسَّ أَوْفَرُ نَصِيبًا، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ قِسْمَةِ الْقَسَّامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} [الزُّخْرُفِ: 32] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ … بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّفَاوُتَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْمَالِ بَلْ هُوَ حَاصِلٌ فِي الذَّكَاءِ وَالْبَلَادَةِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالْعَقْلِ وَالْحُمْقِ وَالصِّحَّةِ والسقم وَالِاسْمِ الْحَسَنِ وَالِاسْمِ الْقَبِيحِ، وَهَذَا بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ. وَقَدْ كُنْتُ مُصَاحِبًا لِبَعْضِ الْمُلُوكِ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَلِكُ كَثِيرَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَكَانَتِ الْجَنَائِبُ الْكَثِيرَةُ تُقَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَا كَانَ يُمْكِنُهُ رُكُوبُ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَرُبَّمَا حَضَرَتِ الْأَطْعِمَةُ الشَّهِيَّةُ وَالْفَوَاكِهُ الْعَطِرَةُ عِنْدَهُ، وَمَا كَانَ يُمْكِنُهُ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهَا، وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنَّا صَحِيحَ الْمِزَاجِ قَوِيَّ الْبِنْيَةِ كَامِلَ الْقُوَّةِ، وَمَا كَانَ يَجِدُ مِلْءَ بَطْنِهِ طَعَامًا، فَذَلِكَ الْمَلِكُ وَإِنْ كَانَ يَفْضُلُ عَلَى هَذَا الْفَقِيرِ فِي الْمَالِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْفَقِيرَ كَانَ يَفْضُلُ عَلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ فِي الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ إِذَا اعْتَبَرَهُ الْإِنْسَانُ عَظُمَ تَعَجُّبُهُ مِنْهُ.”

ويقول أيضا عند تفسيره لقوله تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض}:

“الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ افْتِتَانِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ كَانَا سَبَبَيْنِ لِحُصُولِ هَذَا الِافْتِتَانِ […] وَالثَّانِي: ابْتِلَاءُ الشَّرِيفِ بِالْوَضِيعِ. وَالثَّالِثُ: ابْتِلَاءُ الذَّكِيِّ بِالْأَبْلَهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَصِفَاتُ الْكَمَالِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ، وَلَا تَجْتَمِعُ فِي إِنْسَانٍ وَاحِدٍ الْبَتَّةَ، بَلْ هِيَ مُوَزَّعَةٌ عَلَى الْخَلْقِ وَصِفَاتُ الْكَمَالِ مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، فَكُلُّ أَحَدٍ يَحْسُدُ صَاحِبَهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّه مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ. فَأَمَّا مَنْ عَرَفَ سِرَّ اللَّه تَعَالَى فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ رَضِيَ بِنَصِيبِ نَفْسِهِ وَسَكَتَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْخَلْقِ، وَعَاشَ عَيْشًا طَيِّبًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، واللَّه أَعْلَمُ.”

ويقول أيضا في مكان آخر:

“الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَوْجُودَاتُ الْبَاقِيَةُ الدَّائِمَةُ كَالْأَفْلَاكِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الدَّلَائِلِ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالثَّانِي: الْمَوْجُودَاتُ الْحَادِثَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ، وَهِيَ الْمَوْتُ بَعْدَ الْحَيَاةِ، وَالْفَقْرُ بَعْدَ الْغِنَى، وَالْهَرَمُ بَعْدَ الصِّحَّةِ، وَكَوْنُ الْأَحْمَقِ فِي أَهْنَأِ الْعَيْشِ، وَالْعَاقِلِ الذَّكِيِّ فِي أَشَدِّ الْأَحْوَالِ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْأَحْوَالِ دَلَالَتُهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ ظَاهِرَةٌ بَاهِرَةٌ. “

ويقول عند قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً}:

“سُبْحَانَهُ جَمَعَ كَلَّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِطًا لِلنَّاسِ أَوْ مُجَانِبًا عَنْهُمْ فَإِنْ خَالَطَهُمْ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمُصَابَرَةِ عَلَى إِيذَائِهِمْ وَإِيحَاشِهِمْ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ يَطْمَعُ مِنْهُمْ فِي الْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ لَمْ يَجِدْ فَيَقَعَ فِي الْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ مُخَالَطَةً مَعَ الْخَلْقِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ الْكَثِيرِ، فَأَمَّا إِنْ تَرَكَ الْمُخَالَطَةَ فَذَاكَ هُوَ الْهَجْرُ الْجَمِيلُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ أَنْ يُجَانِبَهُمْ بِقَلْبِهِ وَهَوَاهُ وَيُخَالِفَهُمْ فِي الْأَفْعَالِ مَعَ الْمُدَارَاةِ وَالْإِغْضَاءِ وَتَرْكِ الْمُكَافَأَةِ.”

رحمة الله عليه، إنما قد انتهى ابتلاؤه وعساه يؤجر على صبره فيما صبر ويتجاوز عنه فيما لم…
وحقيقة لست أجد أبلغ ولا أجمع ولا أوعى من قوله جل علاه: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا}… وإن واحدنا بحاجة لاستحضار هذه الآية طوال الوقت حتى لا تذهب نفسه حسرات ويتفرقع دماغه كلما تفكر في صروف الدهر… أو تنبجس كل قباحاته المتوارية حين تستثيرها الأضداد واختلاف المقادير… أو يحتقر خلق الله عجبا بما أوتي فيما أوتي ظنا أنه إنما أوتيه استحقاقا، وآفة الموهبة الكبر!

جنبنا الله مخالطة من تؤذينا مخالطتهم وتُخرج أردأ ما فينا، وحبانا بعشرة من يطيب عيشنا معهم وتتجمل بهم عيوب نفوسنا…

ذو الحجة 1440 – آب 2019
سلمى