الرئيسية >> كتب بنكهات متنوعة... >>  مسيحيو الشرق و الإسلام في العصر الوسيط

 

 

مسيحيو الشرق والإسلام في العصر الوسيط

 

 

 

 

هذا الكتاب التاريخي الضخم (720ص) كتاب ممتاز... يتحدث عن رؤية مسيحيي القرون الوسطى للفتح الإسلامي من مصادر مسيحية معاصرة له منذ بدايته و حتى السقوط النهائي للامبراطورية البيزنطية في القرن الخامس عشر على يد العثمانيين... و يحلل العلاقات التي نشأت بين الفريقين و بين الفرق المسيحية فيما بينها، و كيف تطورت عبر الزمن و حصل التعايش و الجوار حد التحالف في أوقات كثيرة، و ترجيح كفة الجار المسلم على البعيد الغربي...
الكنيسة حينها لم تكن نسيجا واحدا، إذ يمكن تقسيم الفئات المسيحية في تلك الفترة إلى ثلاث فئات، الفئة الأولى السريان و الأقباط و الأرمن و من على شاكلتهم من الحركات التي تعتبرها الكنيسة الأصلية بالهرطوقية و الثانية البيزنطيون و الرومان و الثالثة اللاتين أي الغرب المسيحي... فالكتاب درس المسيحية في المشرق متمثلة في الفئتين الأولين و لم يتطرق لفئة اللاتين، و هم مسيحيو أوربا، و ذلك لبعدهم عن المنطقة، و لعدم وجود احتكاك مباشر للمسلمين لهم في البداية، إلا حين قيامهم بالحروب الصليبية، و نظرة فئة اللاتين هذه كان يسودها الجهل المطبق للإسلام و العرب حد إخراجهم من الحقيقة البشرية...
أما بالنسبة للفئتين الأولين أي مسيحي المشرق فالوضع مختلف بسبب التجاور مع المسلمين، و هناك الكثير من المصادر التي أرخت و تحدثت عن هذه الفترة و كيف كان الاحتكاك الأولي معهم، و كيف تطورت العلاقات مع جيرانهم المسلمين فيما بعد... و الفتح الإسلامي لم يوحد هذه الفئات، و إنما قد ساهم في زيادة الانشقاق بينها للخلافات العقدية الموجودة بينهم أصلا، فكثير من الفئات المسيحية المنشقة التي كانت تعاني الاضطهاد من قبل الكنيسة البيزنطية الرسمية قد وجدت في المسلمين متنفسا لها للحرية الدينية التي أتيحت لهم في ظل الحكم الإسلامي، و خاصة الفتح الأول حين قدوم الصحابة رضوان الله عليهم... و هذا ما يفسر سرعة دخول المسلمين لكل من بلاد الشام و مصر... حتى أن دمشق فتحت نصفها صلحا و النصف الآخر عنوة... و ذلك لأن كثيرا من الرهبان رغبوا بالمصالحة لما سمعوه من ميزات أهل الذمة لدى المسلمين، بينما الحامية البيزنطية صاحبة السلطة أرادت القتال... و هو يفسر أيضا لماذا اسُتقبل عمر بن الخطاب في درعا باحتفالية من قبلهم...
كما نجد اختلافا بين كتابات فئة السريان و الأقباط من جهة، و كتابات اليونان و البيزنطيين الذين كانوا الأسياد المسيطرين حينها من جهة ثانية في البدايات... بيد أن البيزنطيين و بعد الحروب الصليبية التي شنها اللاتين و معاناتهم منهم، قد وجدوا أن الغرب المسيحي اللاتيني هو أشد خطرا و عداء من المسلمين و الأتراك الذين وجدت إمكانية التأقلم معهم ممكنة فيما بعد...
و بشكل عام يمكن اختصار النظرة العامة في الكتاب أن المسلم بالنسبة لمسيحيي المشرق كان عدوا مع جهل به، ثم مع الاحتكاك صار خصما محترما و حليفا ثم ملجأ و مخلصا، مع اختلاف هذه المراحل بحسب الفرق المسيحية... و تخلل ذلك خلال القرون الكثير من التشابك بالإضافة إلى الحوار و التفاعل الحضاري، حتى حصل نوع من التوافق و الجوار... و لكن مع اختلاف في تاريخ هذا التوافق بين الفئتين الأوليين و درجته، فمسيحيو سوريا و بلاد الرافدين عاشوا في توافق منذ بدايات الفتح، و اعتبروه خلاصا من سيطرة بيزنطة، فالمسلمون الأوائل كانوا منفتحين و متساهلين دينيا مع الآخرين مع أنهم كانوا الأشد حماسة و اندفاعا لنشر راية الدين الإسلامي، لكنهم أول من تحاور مع المسيحيين باهتمام من القواد، و لذلك ظهرت في تلك الفترة مناقشات عقيدية و مناظرات، و خاصة خلفاء الأمويين في دمشق الذين تركوا أثرا طيبا لدى مسيحيي المشرق... و هذا ما جعل مسيحيي المشرق على اطلاع إلى حد ما على عقيدة المسلمين، و إن كان كثير منها مشوها و منقوصا، و بالتالي تأليف كتب لاهوتية تجادل المسلمين و أيضا تحاول حماية العقيدة المسيحية للحد من التحول للدين الجديد، و كان أكثرها شهرة كتابات يوحنا الدمشقي، التي رغم ما فيها من سفسطة و سذاجة و جهل بالدين الإسلامي إلا أنها بقيت مصدرا لوقت طويل لفهم الدين الإسلامي لديهم بل حتى صارت مصدرا لكثير من الشبهات الإستشراقية فيما بعد... بينما البيزنطيون قد توصلوا لهذا التجاور في القرون التالية مع الفتح العثماني لمحمد الفاتح، و بما أن بيزنطة قد كانت إحدى ضحايا الحروب الصليبية للغرب، فلم يتعاطفوا معها في العموم، و فضلوا الأتراك على اللاتين...

و إن كانت قد حصلت خروقات عنيفة خلال كل تلك القرون، لكنها بقيت استثناء و لم تتحول إلى قاعدة كما تحولت على يد اللاتين حين استولوا على بعض المناطق المشرقية...

 

محمد الفاتح و هو يعطي البطريارك جينادويس سخولاريوس فرمانا يذكر بالحريات الدينية الممنوحة للمسيحيين عام 1454، أيقونة من القرن الثامن عشر Gennadios Scholarios with Mehmet II


الكتاب مليء بالتفاصيل المنهكة نظرا لكثرة تعقدات المشهد، و غوصه في أدق التفاصيل و الحوادث المتشابكة، و كثرة الأصوات و الأحداث و التجاذبات، بالإضافة إلى الخلافات العقيدية بين مختلف الفرق الكنسية، التي في فهمها توضيح للمشهد بشكل أفضل... لكن المؤرخ الفرنسي آلان دوسلييه و هو أستاذ تاريخ القرون الوسطى في جامعة تولوز و الذي يدخل قارئه في تفاصيل مدوخة _جعلتني أضيع الخيوط في مواضع كثيرة_ يخرجه بعد ذلك منها بالنتيجة، مريا إياه كيف استخرجها...
دوسلييه بدا مؤرخا ذكيا و موضوعيا، فهو يترك المؤرخين القروسطيين يعبرون عن أنفسهم بأريحية تامة، حتى و لو بكذب و صفاقة في أحيان، كما يقول، ثم بعدها يحلل بحصافة ما وراء السطور، مخرجا ما يمكن استشفافه من الحقيقة وراء كل هذه الكمية من الكلام الذي لا يخلو عن كثير من الشتائم و الغضب و النواح و المبالغات و حتى الاختلاق... ملاحظاته دقيقة، يتعلم المرء منه كيف يقرأ في كتب التاريخ القديمة و يستنتج منها... إذ من الخطأ لامرئ في هذا العصر أن يقرأ كتابات القرون الوسطى بذهنية هذا العصر و يحاكمها على هذا الأساس، بل عليه أن يغمر نفسه في السياق و يقارنه بمبادئ عصره و أسلوبه حتى يستطيع أن يفهم... أضرب أمثلة على ملاحظات دوسلييه:
مثلا تعليقه على كثرة الشتائم الموجهة للمسلمين في الكتابات هذه أنه
"ينبغي أن لا تروعنا رؤية ذلك السيل الهادر من الشتائم و الاتهامات يتدفق على الدين الإسلامي، فهو ليس سوى بعض من الذخيرة التقليدية في السجال و الدفاع عن الدين" ص445، فقد صار هذا النوع من الكتابة تقليد كتابي أو حتى غريزة، يُستهل بها الكلام، و كنوع من إظهار الورع أو شعورا بالخطر بسبب تحول الكثيرين الديني و أحيانا كتسويغ للتحالف مع المسلمين أو لارفاقه عند ذكر حدث طيب عنهم... و لكن دوسلييه لا يخفي امتعاضه منهم أحيانا:"لقد عاد مساجلونا ثانية إذن إلى معزوفة انتقاد الأخلاق الإسلامية، دون حجج جديدة فعلا، و لكن بعنف بل _و لنقلها_ بسفالة و سوء نية مغيظتين" ص248
أو مثلا ما نقله عن كاتب يوناني اسمه غريغوريوس بالاماس، يمدح فيه ذكاء أهل دمشق و الحرية الدينية فيها، فيعلق دوسلييه
"كيف يدهشنا أن نكتشف أن لدى المسلمين مشاعر إنسانية كثيرا ما أنكرت عليهم بسبب أفكار مسبقة دينية أو ثقافية على الرغم مما قدموه عنها من أمثلة سابقة باعتراف المساجلين القدماء؟" ص527
أو مثلا تفريقه بين حقبة و أخرى و ما نزل على الرعايا من مسلمين و غير مسلمين في تلك الفترة أو هذه، و انتباهه للقلاقل التي طالت الجميع و ليس فقط المسيحيين لكونهم مسيحيين و لذلك يعلق قائلا على نص مؤرخ أرمني:
" فليس بوسع مثل هذه النصوص إلا تكذيب جميع ما قاله الكاتب عن الشر الفطري النابع من عقيدة المسلمين: فطبيعة البشر هي التي تجعل هيمنة الإسلام مقبولة أو صعبة الاحتمال لا الدين." ص94
مثلما أن العدل قيمة كونية يستشعره الكل حين يوجد و ينعم به الجميع، و لا يمكن أن تخطئه حتى عين الخصم، لذلك ستجد نصوصا تمدح كلا من أبي بكر و عمر بن عبد العزيز و الوليد بن عبد الملك و صلاح الدين... الخ
أيضا تفريقه في كثير من الأحيان بين موقف العامة و بين المثقفين اللاهوتيين الناقلين للتاريخ حسب الوقائع، مثلا تعليقة على حادثة مساعدة بعض الرومان للمسلمين حين هاجمهم اللاتينيون:
"نحن هنا، على كل حال، أمام حدث نادرا ما أشير إليه، لكنه يحمل دلالة كبيرة، و يثبت أن بعض اليونانيين الذين لا علاقة لهم بمصالح النخبة لم يترددوا، ضمن ظروف معينة، في تأييد المسلمين ضد اللاتين الذين كانوا يشعرون نحوهم بكراهية متزايدة." ص426
و كثير من تعليقاته اللماحة التي جعلت روح الكتاب مريحة و جعلتني أستمتع به كثيرا، رغم أنه معقد قليلا لكثرة إسهابه في تفاصيل كثيرة تخصصية للباحث في التاريخ البيزنطي و الكنسي... و ترجمته كانت متقنة فعلا كما أغراني بشرائه البائع ليشتت انتباهي عن سعره المرتفع، إذ قامت بها مترجمتان و مراجعان، مراعين الأسماء و الاصطلاحات التاريخية بامتياز... هذا كله جعلني أنسى سعره المزعج نهائيا، و أشعر بالامتنان أني قرأته... و لله الحمد أولا و أخيرا...
 

إنما هو بحث تاريخي ممتاز لوجهة نظر الآخر و من مصادرهم، بتحليلات ذكية لمؤرخ منصف، يمكن أن يتعلم المرء منه الكثير، سواء للفهم أو لتلافي سوء الفهم... في زمن بات الإنصاف فيه عزيزا، و خاصة من بني جلدتنا المعقدين الذين صار ديدنهم الجهل على أمتهم بتشويه تاريخها و أهلها و نزع ما فيهم من خير و كأنهم محض وحوش ما عرفوا نورا و لا عدلا قط...و بدل محاولة الإصلاح و البناء فكل ما يجيده هؤلاء هو الهدم و التحطيم...
يسعدني أن هذا المرجع الضخم قد ترجم للعربية، فهو جدير بالعناية ممن هو مهتم... و لو لم يتعلم المرء منه سوى كيف يقرأ النص التاريخي من خلال السياق الثقافي و الاجتماعي الذي وجد فيه لكفاه...
 

 

 

--

مسيحيو الشرق و الإسلام في العصر الوسيط Chrétiens d'Orient et Islam au Moyen âge

لمؤلفه الفرنسي: ألان دوسلييه Alain Ducellier

ترجمة: رشا الصباغ - رندة بعث

مراجعة: جمال شحيد - مروان الداية

دار الساقي، ط1 - 2014



 

سلمى

3 كانون الثاني 2016

 

 

 

 

 

 

 

 

 

CopyRight & Designed By Salma Al-Helali