كتاب الحكمة العربية
دليل التراث العربي إلى العالمية
جولة فريدة ومبهرة يأخذنا إليها محمد الشيخ الباحث المغربي
في أروقة تاريخنا الإسلامي عبر القرون المتطاولة لنتعرف على وجوه من الحكمة
العربية... نوادر وطرائف وأخبار وأقوال وعجائب وقصص حدثت مرة في نفس المكان
وذات زمان، خلاصة العقول وفكر الإنسان... في مواضيع شتى ما زالت تشغل
فلاسفة العالم ومنظريه وستظل... عن الإنسان والغربة والآخر والموت والكتابة
والصداقة والمنفى والحيرة والترجمة والوحدة... الخ...
كان الشيخ حريصا على اختيار أسماء وقصص قل اشتهارها وخمد ذكرها فنفض عنها
غبار النسيان... محاولا التنويع في من اختارهم مع نزعة صوفية... قاصدا من
كتابه هذا الرد على المسفهين لحضارتنا الذين لم يعرفوا عنها إلا سطحها
فخرجوا بأفكار سطحية كمعرفتهم... ومحاولا إظهار هذا الفكر العربي المؤود
قصدا في خريطة الفكر الإنساني، ولذلك سماه بدليل التراث العربي إلى
العالمية... بحيث ترى أصالته بذاته، بعيدا عن الأفكار المستهلكة بكون قيمته
استجلبها من وساطته لعقل اليونان أو استحضاره مؤدلجا كذريعة لأفكار
الحداثيين... بل هو مهم لذاته... لما يحتويه... لغناه كما هو... ويستحق أن
يبرز للعالمين أجمعين ليستفيدوا منه...
حدثنا محمد الشيخ عن تفكر حكماء العرب بم يكون الإنسان إنسانا؟ أبالروح، أم
بالعقل، أم بالبيان، أم بالكيان، أببعض من هذا أم كله؟ أم هو إنسان لأنه
يموت، فلا يستكمل حد الإنسانية إلا بالموت، أي بسمة التناهي! بل ربما
بالأخلاق، فالإنسان هو الذي لا يتأذى منه الإنسان كما يخبرنا الزاهد أبو
جعفر القروي، أو هو الذي يتعاطى الفعل المختص بالإنسان كما يقول الأصفهاني؟
وهل الإنسانية وهب أم كسب؟ حدثنا عن ابن دقيق العيد الذي اعتاد مخاطبة كافة
الناس بما فيهم السلطان بـ يا إنسان، عن تساؤلهم من هو الغير، وما علاقة
الأنا بالآخر، عن نفاة الصداقة وتأوهاتهم من الزمان والخلان، وعن مثبتي
الصديق حد تعريفه بكونه (آخر هو أنت)، عن قول جعفر الخلدي: (مجالسة الأضداد
ذوبان الروح، ومجالسة الأشكال تلقيح العقول)، عن قول ابن النفري في غربته:
غريب كم يلقى غريب ... فلا وطن لديه ولا حبيب
تذكر أصله فبكى اشتياقا ... وليس غريبا أن يبكي غريب
عن محبي الوحدة وأقوالهم وفعالهم ليتحصلوا عليها، وعن منكريها لأن الإنسان
يحتاج الأنس، والوحدة لديهم قبر الحي، وعن المترددين بين هذا وذاك كما قال
أبو سليمان السجستاني: (إن خالطت ذممت الناس، وإن اعتزلت اجتلبت الوسواس)،
عن من صادق الحيوان كأبي عمران المارتلي الذي مدح صحبة الهر:
فنعم الجليس ونعم الأنيس ... ونعم المعد لدفع الأذى
عن بدر الدين الزركشي الذي كان منقطعا في منزله لا يتردد إلا إلى سوق
الكتب، وعن علي بن محمد الإسكندراني ابن المحلوبة الذي كان عالما مفرطا
منحرف المزاج حتى أنه ردم بابه بالحجارة من الداخل وكان جاره يدلي له ما
يحتاج إليه من السطح... عن العلامة عبد الله بن سهل الغرناطي الذي كان
عالما بالقرآن والحديث وأيضا بالمنطق والعلوم الرياضية حتى أجمع كل من
المسلمين واليهود والنصارى أن ليس في زمانه مثله، عن اختلاف هؤلاء العلماء
في أنواع الحيرة والشك، وتمييز أغلبهم بين حيرة معقولة وهي المؤقتة،
والحيرة المرذولة وهي الدائمة، و بين نوعين آخرين كما يقول الشبلي: (الحيرة
على نوعين: أحدهما في الماهية، والثانية في الكيفية، والحيرة في الماهية
كفر وشرك، وفي الكيفية معرفة)، عن تيقظ الحواس في الثقافة العربية وتنوع
التنعم بها بأنواع الفنون التي ترقيها وتسمو بها شما وسماعا وتذوقا ومنظرا،
والكتب التي ألفت في الألوان والروائح والأصوات والطعوم، عن ابن البواب
الذي كان في أول أمره مزوقا يصوّر الدور، ثم صوّر الكتب ثم صار يكتب ففاق
بخطه الجميع، عن الأمير التركي طاجار المارديني الناصري الذي كان حين يريد
الاستراحة من الخدمة نزل فرقص، ثم يعود فيطلع إلى القلعة لمزاولة عمله...
عن هوسهم بالعلم والكتب والقراءة والكتابة، عن علاء الدين بن الأثير الحلبي
حين اشتد عليه الفالج فلم يعد يتحرك منه إلا جفنيه، فكان إذا أراد شيئا قرأ
عليه خادمه حروف المعجم، فيطبق جفنه على الحروف المطلوبة، فيعرف منه مراده،
عن الفقيه الحنبلي محمد بن عبد الباقي الأنصاري الذي تعلم الخط الرومي حين
أسرته الروم وقيدوه بالسلاسل، إذ تصادف وجود معلم قريب منه يعلم الصبيان
الخط بالرومية، فكان يصغي إليه، وعن الفقيه الحنفي السرخسي الذي حبسه
الحاكم في البئر لأنه نصحه، فألف كتابه الضخم (المبسوط) وهو يمليه على
تلامذته من الجب وهم في الأعلى يكتبون، عن كل أولئك العلماء الذين ترددوا
فيما كتبوا أو تحولوا للزهد أو أصابهم داء الكمال فحرقوا ما ألفوا أو غسلو
أوراقهم أو دفنوها، وعن آخرين ضاعت كتبهم وغرقت وحرقت فانكسرت معها قلوبهم
وأرواحهم، عن عباقرة كانوا ضيقي العطن لا يملكون الجلد لإتمام كتابة كراس
فما تركوا بعدهم إلا أوراقا متناثرة، وعن من كثرت مؤلفاتهم في كل فن حتى
صاروا مادة للتندر كما حمزة بن الحسن الأصبهاني المؤدب الذي قيل أنه لكثرة
تصانيفه وخوضه في كل علم سماه جهلة إصبهان ببائع الهذيان، عن الترجمة
والمعايير التي وضعوها لها وما اعتبروه قويا منها أو قلقا، عن من ألفوا في
القر والحر والحضر والسفر، عن كمال الدين ابن العديم الذي كان يكتب في
السفر على محفة توضع بين بغلين، عن الكتابة وآثارها وأحوالها وشجونها
ونوادرها، كقول أبي بكر الخطيب: (من صنف فقد جعل عقله على طبق يعرضه على
الناس)، عن المرأة عديمة اليدين التي اغتنت بخطها الحسن الذي كانت تخطه
بقدميها، عن العلامة سعيد بن المبارك الذي أصاب كتبه ماء مدبغة منتنة، فظل
يبخرها بمادة كيميائية ليذهب ريحها حتى أذهب بخارها عينيه، عن الخطاطة
فاطمة بنت الأقرع التي ندبت لكتابة كتاب الهدنة بين خليفة زمانها وحاكم
الروم، عن الفقيهة فاطمة السمرقندية التي كان مهرها كتاب (بدائع الصنائع)
والذي ألفه الفقيه الحنفي الكاساني، فزوجها والدها إياه، وكانت الفتوى تخرج
وعليها خطها وخط أبيها وخط زوجها، عن علماء وفقهاء وأدباء ومحدثين وشعراء
وحكماء وزهاد ومتعبدين وكتبة وكتب و قصص كثيرة كثيرة... عن حياتهم، عن
حكمتهم، عن تدبرهم في صروف الحياة... عن حضارتنا الإسلامية...
العلماء، لوحة للرسام النمساوي لودفيغ دويتش 1901 The
Scholars By
Ludwig Deutsch
حدثنا محمد الشيخ عن كل هذا وأكثر، و قد سبك الكلام بأسلوب
جعله مرتبطا بعضه ببعض، فلم يكن مجرد سرد للقصص، بل كان يحاول من خلاله
استخراج ما شغل العقل العربي وكيف عايش هذه الاستشكالات وحاول إيجاد الحلول
لها... وإن كنت لم أتفق معه في بعض استنتاجاته ولم أر ما رآه فيها، إلا
أنها لم تقلل من حبي للكتاب وانبهاري به...
ارتشفت هذا الكتاب الضخم ببطء على مدى عام كامل خشية إنهائه، وما كنت
أفتحه إلا حين السأم من كل شيء... لكن مهما تباطأ الزمن، فقد آل إلى كل ما
له بداية، إلى النهاية...
كتاب رائع يُقرأ مرات ويُنصح به كرات، ويحفظ الكترونيا
ويُقتنى ورقيا، ويـُهدى حين الثراء ويُقتبس منه صباح مساء...
--
كتاب الحكمة العربية؛ دليل
التراث العربي إلى العالمية
لمؤلفه المغربي: محمد
الشيخ
الشبكة العربية للأبحاث
والنشر، ط1، 2008
سلمى
24 تشرين الأول 2016
|