الرئيسية >> كتب بنكهات متنوعة... >>  الراهب

 

الراهب

The Monk

لـ ماثيو غريغوري لويس

Matthew Gregory Lewis

 

رواية الراهب         ماثيو غريغوري لويس

 

كم من السهل أن يختار المرء و يرى ما هو الصواب حين يكون خارج الحبكة و ينظر إليها كمشاهد...

كم من الهين أن ينظـّر و يبشر بالمثاليات حين يكون بعيدا...

و كم من اليسير أن ينتقد و يترفع و يشعر بتفوق و هو يشاهد من خلف الشاشة أو يقرأ الخبر ككلمات...

و لكن هل سيثبت فيما لو امتـُحن فيما يبشر به بنفسه؟ و سيـُمتحن... إذ تأبى سنن الدنيا إلا أن يوضع كل امرئ أمام كلماته و نظرياته يوما و هو على المحك فيشهدها... و حينها سيرى أيكون على قدرها أم يكتشف ضعفه... ثم أولو اكتشف ضعفه، هل سيعرف قدر نفسه فيلزمه، هل سيسأل الله أن يعينه لأنه غير قادر على تجاوز الأمر وحده، أم يتجاهل و يبرر... و يا للتبرير! فهو القدرة الشيطانية التي يملكها البشري لتسويغ أي شيء... بل و مع رشة من القداسة على أفعاله إن شاء... و مع التبرير ما في شي مستحيل...

 

أمبروزيو راهب شاب منعزل خطيب مفوه شديد التقوى و الإعراض عن الدنيا و شهواتها حاد الذهن مهاب الجانب من قبل الجميع... في لحظة من اللحظات و حين شاهد المجد الذي وصل إليه من محبة الناس و حين اطمأن لذكائه الحاد الذي فاق الجميع، خالجه شعور بأنه أعلى مقاما من البشر و أنه لا يملك الضعف البشري الذي يملكونه... الراوي تساءل في لحظتها إن كان أمبروزيو سيكون على قدر كلامه لو ابتلي بالدنيا، و هل هو مبرأ من هذا الضعف البشري؟ و كأنه كان يتوعده! و من هنا بدأت حكاية مقتله... حيث أن الدنيا عرضت له و اقتحمت حياته، فسرعان ما زلت قدمه زلة اثر زلة اثر زلة، و المعصية جرت المعصية... فزنى ثم نافق ثم قتل ثم اغتصب ثم مارس السحر و أخيرا جدف و باع روحه للشيطان مقابل انقاذه... و لكن هل للشيطان عهد و ذمة؟

قد غدر به و كذبه و تخلى عنه _كما يليق بخسة الشيطان_ و جعله يختم حياته بالكفر فخسر الخسران الأبدي...

 

طبعا هذه كانت الفكرة الرئيسية، و لكن الرواية طويلة و تداخل فيها الكثير من القصص الجانبية، قصص حب و أشباح و قطاع طرق و أمور أخرى...

الرواية بشكل عام ممتعة و فيها الكثير من التشويق، و لكن فيها الكثير من السذاجة و السخف و الإطالة المملة و بإمكانك أن تخمن الكثير من الأحداث... فضلا عن أني أذكر قصة اسرائيلية كنت قرأتها منذ زمن بعيد تتحدث عن حبر متعبد تتشابه أحداثها مع هذه... و لا أنكر أني شعرت بأن كل الشخصيات _غير الراهب_ و خاصة النسائية منها تعاني من التبسيط و الخلو من العمق... بحيث أنك تود لو تضرب إحداهن على رأسها لشدة سذاجتها بينما المؤلف يضيع الصفحات و هو  يغيظك بالتغزل ببراءتها و طهرها حتى لتخاله واقعا في غرامها! و كأنه ينبغي لتكون من ضمن فئة الأخيار أن تكون أبلها و مسطحا! و كأن السذاجة في النساء كانت الموضة المطلوبة في الإناث حينها! و ربما ما زالت... لا أدري!

بيد أن كل هذا لم يقلل من شأن الرواية... لأن الرواية أول ما نشرت كان عام 1796 و المؤلف ماثيو غريغوري لويس كتبها و هو في التاسعة عشرة من عمره، متسببا بصدمة كبيرة للمجتمع... و أستطيع تخيل السبب... فهي مليئة بالعنف و الشر و الغرام و الأمور المرعبة كما أنها تنتقد المؤسسة الكنسية بشراسة...

و مع أني لا أميل للروايات الكلاسيكية إذ أنها تميل عادة لتسطيح الشخصيات... و لكن مصدر عبقرية الرواية هو في تصوير شخصية الراهب و صراعه النفسي و كيفية هبوطه من الداخل... و هنا بيت القصيد... إذ أنها جعلتني أفكر كثيرا في الخير و الشر و الإنسان...

فالذي يمارس الشرور على هذه الأرض بشري... الذي يقتل و يرتكب المجازر بشري... ليس بالضرورة أن يكون مريضا نفسيا... فقد تجده يقرأ شعرا بل و يكتبه... تجده يبكي تأثرا لمقطوعة موسيقية بل و يعزفها... قد يكون مفكرا يتحف الناس بنظرياته و كتبه... رساما، ممثلا... منظرا حقوقيا... قد تجده يفعل أي شيء تخاله من خلاله بشريا و إنسانيا... و لكن هل يعني كونه بشريا و إنسانيا أنه ليس بقادر على الذبح و التعذيب!

كل ما عليك أن تفعله هو أن تضع مصلحته الشخصية على المحك و انظر ماذا يفعل...

ليس بيننا وحوش و شياطين... إنما بيننا بشر يملكون القدرة على التبرير...

 و لذلك لن يأتيك انطباع بأن أمبروزيو شخص حقير أو مريض... فهو لم يكن يتلذذ بشكل سادي بالإجرام... بل تجده مدركا لخطئه، و قد يشعر باشمئزاز بعد جريمته... و لكنه كان يختار الخطأ بملء إرادته... يختاره لأنه يلاحق مصلحته الشخصية... يختاره لأنه أعمى عينيه بسبب تكبره، و التكبر هو أس كل خطئية، لأنه يجعل الإنسان يكابر و يجادل و يبرر لنفسه رغم وعيه بزيف نفسه...

ماذا لو وضعت مصلحتك الشخصية على المحك... هل ستختار العدل و لو على نفسك؟

 

حقيقة أن الرواية أثرت بي بشدة رغم سذاجة كثير من شخوصها... لكن أمبروزيو و الفصل الأخير (مساومة الشيطان له في لحظات حياته الأخيرة و تردده لوهلة بين هل يلتجأ إلى الله فيطلب العفو أو يستمع للشيطان فيكفر ليخرجه مما هو فيه، حتى انتصر الشيطان و باع روح له فخسر الخسران المبين) جعل تقييمي للكتاب يرتفع نجمة كاملة، إذ الرعب نفذ لقلبي فعلا... فهو كان يكابر و يكابر و يكابر حتى النهاية... حتى آخر لمحة و قطرة... و كان من الممكن أن يتوب في تلك اللحظة الأخيرة... آخر فرصة... شعرة واحدة فقط كانت من الممكن أن تفصله عن ذاك السقوط الأبدي... و لكنه أبى إلا أن يكون من المتكبرين حتى آخر لحظة... فهوى...

 

بيد أن أكثر ما يقض مضجعي أني لم أكره أمبروزيو رغم كراهيتي لأفعاله... الأسوأ أني شعرت به محببا أكثر من كل الشخصيات الطيبة الأخرى التي يفترض بي أن أحبها لطيبتها التافهة... لم أشعر بالبقية إلا أنهم ثلة من المهرجين و الكومبارس... هذا الشعور يزعجني و لا أدري لماذا شعرت به... ربما لأن المؤلف لم يهتم بجعلهم شخصيات ذات عمق و كان تركيزه على الراهب... فكانت هي الشخصية المتطورة الوحيدة التي تشعر بأنها نموذج بشري صرف... نموذج للصراع بين الخير و الشر في داخل المرء...

و ربما لأن شعورا خفيا رافقني أن المؤلف كان يكرهه فعلا... و كأنه لم يخلق هذه الشخصية إلا ليصب فيها جام غضبه و ينتقم منه و يجعل الشيطان يقتحم حياته بشكل مجحف... في مقابل طريقة مدحه السمجة للشخصيات الأخرى... حسنا... هذه إحدى الجوانب الطفولية في طريقة السرد التي ترفع الضغط، دعونا لا نتوقف عندها...

و ربما لأني مدركة لمدى غواية أن تؤتى عقلا حادا... 

 

ثم شاهدت الفيلم الفرنسي المقتبس من الرواية... Le Moine

فيلم الراهب

الفيلم بعيدا عن الرواية ممتع و لكنه يبدو كفيلم رعب صرف... إذ أنك لا ترى ذاك الصراع الداخلي و لا يبدو سقوط الراهب مفهوما كثيرا... فقط ترى راهبا ذكيا و محببا يستلمه الشيطان فيسقطه مرة وراء مرة بسبب لعنة حلت به لأنه قال أنه أقوى من الافتتان... و مخرج الفيلم لم يجعله شخصا كريها أيضا... هل شعر بما شعرت به تجاهه يا ترى! فقد جعل طلب الراهب من الشيطان مقابل أن يكفر طلبا نبيلا لأجل من أخطأ بحقها فافتداها بأخراه... بعكس الرواية التي كانت سوادا و شرا صرفا...

بأية حال لن أقارن الفيلم بالرواية... إذ يبدوان منفصلين... لذلك نصيحتي أن لا تستغني بأحدهما عن الآخر، فكلاهما جميلين...

 

حقيقة أن هذه الرواية و التي ترافقت مع شهودي لكثير من المنظرين و المتحذلقين و الإنسانيين و المتفلسفين و الأدباء الذين صدعوا رؤوسنا بأفكارهم الإنسانية و قد هوت كلماتهم و تمرغت حين وضعوا على المحك فكشروا عن أنيابهم، و لكثير من اللفات الدينية و قد تساقطت و تهشمت... و شهودي لمدى صعوبة الامتحان... و لمدى ضعفي و جبني... كل هذا جعلني أخفف من نبرة العلاك و التنظير قدر الإمكان _لأني أعترف أن العلاك و التنظير لذة من الصعب مقاومة غوايتها_... إذ عرفت قدر نفسي...

 

و شكرا كبيرة للذي نصحني بالرواية، لولا أني أثق بترشيحاته ما كنت صبرت على قراءة كل هذا الكم من الصفحات بلغة انكليزية عتيقة و متعبة...

 

و في النهاية أحسب لا أفضل من أن أختم هذا الموضوع بدعاء اللهم أرنا الحق حقا و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلا و ارزقنا اجتنابه...



 

سلمى

تموز 2012

 

 

 

 

 

 

 

 

CopyRight & Designed By Salma Al-Helali